تحقيق

هل يواجه العالم موجة خامسة من أزمة الديون؟

إجمالي الدين الخارجي للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل حوالي 8 تريليونات دولار

ديون البلدان النامية تقفز إلى أعلى مستوى لها منذ 50 عامًا

 

ما أن بدأ الاقتصاد العالمي، مطلع العام الحالي 2022م، في التعافي من آثار وتداعيات جائحة كورونا.

وقبل أن يبدأ العالم في التقاط أنفاسه، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية، ليواجه تحديّا من نوع مختلف، إذ ارتفعت مخاطر الديون في كثير من دول العالم، بعد أن بلغ إجمالي الدين الخارجي للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل حوالي 8 تريليونات دولار.

الأمر الذي حدا برئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس، ليقول:”إن العالم يواجه موجة خامسة من أزمة الديون”، داعيًا إلى مزيد من الدعم للدول، التي تعاني صعوبات، وسط ارتفاع التضخم العالمي وارتفاع أسعار الفوائد، فيما رأى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريس أن العالم لا يدرك حجم كارثة الدين، التي ظهرت على السطح مع وباء كورونا، وهو ما يهدد بموجة من الفقر والجوع والاضطرابات الاجتماعية والصراعات في الدول النامية حول العالم.

تحذيرات ومخاوف

ودفع وصول الديون لأرقام قياسية، صندوق النقد الدولي وكذلك البنك الدولي والعديد من المنظمات المعنية إلى التحذير من تفاقم العجز في الموازنات العامة، بعد أن قفزت ديون البلدان النامية إلى أعلى مستوى لها منذ 50 عامًا (حوالي %250 من الإيرادات الحكومية)، وبلغت أعباء خدمة الديون في البلدان متوسطة الدخل أعلى مستوى لها في 30 عامًا وباتت %60 من البلدان منخفضة الدخل تعاني بالفعل من المديونية الحرجة أو معرضة لمخاطر مرتفعة لبلوغها.

وهناك تقديرات بأن 12 دولة نامية يمكن أن تعجز عن خدمة ديونها، كما ستعاني اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية من الديون، وهي الاقتصادات التي تمثل معًا نحو %40 من إجمالي الناتج المحلي العالمي.

أكبر زيادة في الديون

وكانت جائحة كورونا، قد أرغمت العديد من الدول على مزيد من الاقتراض، وأدت الجائحة في عام 2020م إلى أكبر زيادة في الديون لمدة عام منذ الحرب العالمية الثانية، وجاءت الحرب على أوكرانيا لتضع مزيدًا من العقبات في طريق التعافي من الجائحة، إذ ألقت تلك الحرب بآثارها على أسواق السلع الأولية والأسواق المالية، وخاصة في البلدان النامية، التي تعاني أصلاً من العجز في الموارد المالية.

فقد أكد تقرير لصندوق النقد الدولي أن المناطق الأكثر فقرًا مثل أفريقيا، من المرجح أن تتحمل العبء الأكبر للحرب الروسية الأوكرانية، بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية والوقود.

فمن عوامل ارتفاع أسعار الغذاء وتراجع الإنتاج الزراعي الارتفاع الواضح في أسعار الأسمدة، حيث أدت العقوبات على روسيا وبيلاروسيا (وهما المصدران الثاني والثالث للبوتاس في العالم، ومن كبار مورّدي أسمدة المحاصيل الأُخرى مثل النيتروجين والفوسفات واليوريا والأمونيا) إلى أزمة في ذلك القطاع، لم يشهدها العالم منذ أزمة الغذاء عام 2008م.

وبالإضافة إلى الارتفاع الشديد في أسعار المواد الغذائية، فإن زيادة أسعار النفط سيرفع فاتورة الواردات لمستوردي النفط في أفريقيا جنوب الصحراء بنحو 19 مليار دولار، مما سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف النقل وغيرها من التكاليف الاستهلاكية.

أزمة ذات أبعاد مختلفة

وعلى الرغم من أن البعض يعتبر أن احتمالية تعثر 12 دولة، قد لا يشكل أزمة ديون عالمية شاملة على غرار أزمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، ولا تلك الأزمة التي حدثت في منتصف التسعينيات، إلا أن الأمر الواضح أن الأزمة الحالية ستكون أكبر موجة من أزمات الديون في الاقتصادات النامية منذ التسعينيات.

كما أن هذه الأزمة مختلفة عن الأزمات الأخرى، ففي السابق كانت معظم ديون الاقتصادات النامية لحكومات أخرى وجميعها تقريبًا أعضاء في نادي باريس، أما الديون الحالية فأغلبها لدائنين تجاريين غير رسميين، وعلى سبيل المثال، فإنه خلال هذا العام سوف يتم سداد 5 مليارات دولار فقط إلى الدائنين في نادي باريس من بين نحو 53 مليار دولار سيتعين على البلدان منخفضة الدخل سدادها، كذلك فإن أن معظم ديون الاقتصادات النامية مرتبطة بأسعار فائدة متغيرة، ومن ثمّ، فإن هناك احتمالية لارتفاعها.

خلل كبير في الميزان التجاري

في ظل أن العديد من البلدان النامية تعتمد اعتمادًا كبيرًا على استيراد السلع الأولية وكذلك على السياحة أو التحويلات، فقد عانت تلك البلدان من خلل كبير في ميزانها التجاري، سواء بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة، أو بسبب تراجع السياحة أثناء أزمة كورونا أو بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وتزامن ذلك مع ارتفاع تكاليف الاقتراض الخارجي.

وإلى جانب مشكلة الديون، فإن الأسواق الناشئة ـ وفقًا لمعهد التمويل الدولي ـ عانت خلال عام 2022م من تخارج محافظ الاستثمارات الخارجية، لتكون هذه الخسائر المتتالية أطول سلسلة خسائر خلال سبع سنوات.

سلسلة التخلف عن السداد

وفي ضوء ذلك، ظهرت تقارير تشير إلى أن احتمالات التعثر في سداد الديون لدى بعض الدول، قد يمتد ليطول العديد من الأسواق الناشئة في “سلسلة من التخلف عن السداد”، متوقعة أن يبلغ التعثر في سداد الديون إلى ما قد يصل إلى 250 مليار دولار.

وأكدت دراسات أخرى ارتفاع عدد الأسواق الناشئة ذات الديون السيادية المتداولة عند مستويات متعثرة العوائد، في ظل اعتقاد المستثمرين أن التخلف عن السداد احتمال حقيقي بأكثر من الضعف خلال الأشهر الستة الماضية.

وتزداد ملامح الأزمة، في ظل أن معظم الدول المدينة، تمتلك احتياطات منخفضة من العملات الأجنبية لتغطية مدفوعات السندات المستحقة، مما قد يصبح مشكلة إذا لم يتمكنوا من تجديد سنداتهم المستحقة.

فضلاً عن أن البلدان التي اقترضت بكثافة عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة، تكافح الآن لتمويل المشاريع التي من شأنها أن تجعلها أكثر مرونة في مواجهة التغيرات المناخية، مما يجعلها عرضة لتكاليف اقتراض أعلى في المستقبل. كباكستان، التي دفعت إلى حافة التخلف عن السداد بسبب الفيضانات التي أتت على ما يقرب من ثلث أراضيها خلال العام الماضي ومطالبة بسداد 3 مليارات دولار كخدمة ديون حتى منتصف العام الجاري 2023م.

رئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس

المدفوعات ونظرية الدومينو

وبالفعل، فقد كانت سريلانكا أول دولة تعلق سداد المدفوعات المستحقة لحاملي سنداتها الأجانب هذا العام، بسبب تكاليف الغذاء والوقود، الأمر الذي تبعته اضطرابات واحتجاجات، وفي العالم العربي، تشهد لبنان واحدة من أسوأ الأزمات عالميًا منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع ديون تخطت عتبة الـ 100 مليار دولار.

وهكذا تزداد المخاوف، في ظل تجارب وخبرات الأزمات السابقة، والتي تشير إلى أن الانهيار المالي لحكومة واحدة قد يخلق “عدوى”، فيما يُعرف بنظرية الدومينو، إذ يقوم المتداولون بسحب الأموال من الدول، التي تعاني من تشابه في ظروفها مع الدولة التي تشهد أزمة اقتصادية بالفعل، وهو مما يؤدي إلى تسريع انهيار اقتصاداتها.

التحديات والمخاطر الرئيسية

وفي المقابل استطاعت العديد من الدول بتركيزها على معالجة التحديات والمخاطر الرئيسية بالإبقاء على استدامة الدين، فبعض دول الخليج التي استطاعت بتركيزها على حوكمة الشركات والمسؤولية الاجتماعية والبيئية ورفع حصتها من الإيرادات غير النفطية، التي بلغت في عام 2022م بالمملكة العربية السعودية إلى نحو 392 مليار ريال أي ما يعادل نحو %32 من إجمالي إيرادات الدولة البالغة 1.234 تريليون ريال، لتقفز بما نسبته %209 خلال ثمانية أعوام، وذلك نتيجة لاستمرار تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط ضمن برامج رؤية 2030م، وجهودها المبذولة لتوطين العديد من القطاعات خصوصًا التي توفر نسب توطين عالية كالسياحة وغيرها، وكذلك تفعيل أذرعها الاستثمارية، مثلت جميعها رافدًا مهمًّا لاستدامة الدين وبالتالي ارتفاع تصنيفها الائتماني.

فقد استطاعت المملكة، أن تؤمن احتياجاتها مـن التمويـل بأفضـل التكاليـف الممكنـة علـى المـدى القصيــر والمتوســط والبعيــد، مــع مخاطــر تتوافــق مــع سياســاتها الماليــة، وذلــك بهــدف تحقيـق الاسـتدامة وصـولها إلـى مختلـف الأسواق العالميـة وفقًا لتسـعير عـادل، وهو ما يمثـل إحـدى الأدوات الاستثمارية التـي تنتهجهـا المملكـة فـي سياسـتها الماليـة، لتأميـن احتياجاتهـا مـن التمويـل للتوسـع بحجـم الاستثمارات والمشـروعات بأفضـل التكاليـف الممكنـة، وفـق مسـتهدفات السياسـة الماليــة واســتراتيجية الديــن العــام.

 

الدول الدائنة وتخفيف الديون

وغني عن القول إن اقتصادات الدول النامية، في الوقت الحالي، وفي ظل الأزمات المتسارعة، التي يشهدها العالم، غير مستعدة لمواجهة أزمة الديون، خاصة إذا علمنا أن تكلفة التأمين من التخلف عن السداد وصلت إلى أعلى مستوى منذ الجائحة.

وفي الوقت نفسه، فإنه إذا كان البنك الدولي يتعامل مع أزمات الديون من خلال إقامة مشاريع إنتاجية، وتخفيف الفوائد على الديون، إلا أنه لا يوجد ما يلزم الدول الدائنة بتخفيف الديون، ولكن يُترك بالطبع الأمر لها وفقًا لمصالحها، ووفقًا للمباحثات الثنائية أو الجماعية.

ولذلك، فقد تم خلال الفترة الماضية طرح عدد من الأفكار والمقترحات لتخفيف ديون الدول النامية، وتجاوز تلك المرحلة، ومنع تحولها إلى أزمة، ومن ضمن تلك الجهود المبادرة العالمية، التي أطلقتها وزارة الخارجية المصرية خلال اجتماعات للجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف مبادلة الديون بين الدول الدائنة والمدينة، وتحويل الجزء الأكبر منها إلى مشروعات استثمارية مشتركة، من أجل تحقيق نمو إيجابي وخلق فرص عمل جديدة.

وعلى الجانب الآخر، وعلى المستوى الدولي، فقد طرح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خارطة طريق لمثل تلك الأزمات، تتضمن وضع جدول زمني واضح لما ينبغي أن يحدث عند التنفيذ، مثل تشكيل لجنة دائنين، وتعليق مدفوعات خدمة الديون المستحقة للدائنين الرسميين طوال مدة المفاوضات بالنسبة لجميع البلدان المتقدمة، وصولاً إلى مرحلة التقييم لديون البلدان الفقيرة والمثقلة بالديون والمعرضة للخطر.

جهود مشتركة وجماعية

وأخيرًا، فإن الأمر الذي ينبغي التأكيد عليه، أن مشكلة مثل أزمة الديون الحالية يجب مواجهتها من خلال جهود مشتركة وجماعية، من أجل منع تحولها إلى أزمة، وعلى الدول المتقدمة وكبار الدائنين تحمل مسؤولياتهم، وهو ما دعت إليه مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، حين أكدت أن الصين وكبار الدائنين الآخرين يتحملون مسؤولية منع انفجار مشكلات الديون، التي تواجه الأسواق الناشئة والبلدان منخفضة الدخل، وقائلة:”كلما زادت حصتكم، زادت مسؤوليتكم.. من مصلحتكم كمقرضين منع انفجار المشكلة”.

ويتطابق ذلك، مع ما أكد عليه الأمين العام للأمم المتحدة عندما طالب دول مجموعة السبع الغنية بتمويل صندوق النمو وخفض الفقر التابع لصندوق النقد الدولي، بوضع حقوق السحب الخاصة لديها في ذلك الصندوق، لتمويل الدول متوسطة الدخل، وكذلك تمديد مبادرة تعليق دفع خدمة الديون، والتي دخلت حيز التنفيذ مع ظهور جائحة كورونا.