تراجع توقعات التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية على المدى القصير في بداية يناير 2023م إلى أدنى مستوياتها في عامين
الاستقرار وسياسات الإصلاح فضلاً عن العوائد المرتفعة وضعف قيمة العملة المحلية يجذبان المستثمرين الأجانب في الغالب
يعتبر رأس المال الأجنبي حساسا للغاية تجاه التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية والمالية، وينتقل بسرعة وبأحجام هائلة لمحاولة اغتنام فرص تحقيق الربح وتجنّب إمكانية حصول الخسارة.
ورغم تربع دول الغرب لعقود على قمة الدول الجاذبة لرؤوس الأموال الأجنبية، التي كانت تعد الوجهة الرئيسية لها، إلا أن دول الشرق بخاصة الخليجية منها أصبحت اليوم تُظهر ارتفاعًا كبيرًا في مؤشرات حركة رؤوس الأموال إليها، وذلك نتيجة لعوامل عدة منها خارجية وأخرى داخلية أدت إلى تحرير الأسواق المالية واتخاذ إجراءات تحفيزية اتجاه الاستثمار الأجنبي، وأصبحت الشروط والتشريعات مشجّعة للاستثمار.
حالة من عدم اليقين
وكان العالم قد واجه خلال عام 2022م عامًا صعبًا آخر، فلم يكن الاقتصاد العالمي يبدأ في إرهاصات التعافي من جائحة كورونا، حتى بدأت الحرب الروسية ـ الأوكرانية، لتلقي بظلالها وتداعياتها السلبية على العالم بأسره، ولتحول دون بدء التعافي، بل وتفاقم الأوضاع المتدهورة أصلاً في الكثير من دول العالم، وترفع من معدلات التضخم إلى معدلات خطيرة.
كما ألقت جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، وما تلاهما من ارتفاع معدلات التضخم، بتأثيراتها على الأسواق المالية العالمية، وعلى ربحية الاستثمارات المالية في الأسهم والسندات الدولية، وزاد الأمر خطورة، في ظل الإعلان عن إشهار إفلاس العديد من منصّات تداول العملات المشفّرة، كما أن معدلات التضخم المرتفعة والتوقعات المتزايدة بدخول الاقتصاد العالمي في حالة من الركود والكساد، أدت إلى حالة من عدم اليقين لدى المستثمرين حول العالم بشأن، أين يتحركون بأموالهم وتوظيف استثماراتهم؟
الديون وحركة الأموال
ومن جهة أخرى، فقد زادت المخاوف من حدوث كارثة مالية، في ظل تفاقم أزمة الديون، خاصةً الديون الأمريكية الأكبر عالميًا، والتي تجاوزت حاجز الـ 31 تريليون دولار، وباتت تضغط على الاقتصاد العالمي، إذ من المتوقع أن تتسبب تلك الديون، في التأثير على حركة تدفق رؤوس الأموال، وكذلك في دخول الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة انكماش، تنعكس بدورها في صورة فقدان للوظائف وانخفاض في مستويات الدخول وانخفاض في القوة الشرائية.
نتيجةً لمشاكل سلاسل الإمداد وعزوف العمالة خلال جائحة كورونا واندلاع الحرب في أوكرانيا، ارتفعت تكاليف الإنتاج، ومن ثم ارتفعت أسعار السلع والخدمات، وعلى رأسها أسعار السلع الغذائية وأسعار الطاقة، الأمر الذي أدى لحدوث احتجاجات للمطالبة برفع الرواتب والتصدّي لارتفاع الأسعار، ويُنذر بنشوب اضطرابات اجتماعية ونزاعات.
الاقتراب من الركود
ورغم تبنّي العديد من البنوك المركزية حول العالم، خلال عام 2022م لسياسات نقدية صارمة، كمرونة سعر الصرف ورفع أسعار الفائدة لكبح معدل التضخم، وللحفاظ على الاستقرار النقدي، وامتصاص الصدمات الخارجية ولمنع خروج رؤوس الأموال، بل وعودة رؤوس المال الأجنبية، التي خرجت في أوقات سابقة، إلا أن الأمور لم تصبح بعد تحت السيطرة.
في ظل كل تلك الأزمات وتأثيراتها الاقتصادية والمالية، لم تعد المخاوف تقتصر فقط على معدلات التضخم المتسارعة، بل أصبح هناك أيضًا قلق من تأثيرات أخرى، إذ حذر البنك الدولي من اقتراب الاقتصاد العالمي بشكل خطير من الركود خلال 2023م بسبب ضعف النمو في جميع الاقتصادات الكبرى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والصين، وسط توقعات بأن يكون النمو العالمي بين عامي 2020م و2024م أقل من %2، وهو النمو الأضعف في خمس سنوات منذ عام 1960م.
معدلات النمو الأوروبي
وبسبب استمرار التضخم وارتفاع أسعار الفائدة، خفض البنك الدولي توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي خلال هذا العام بنحو النصف إلى %1.7 فقط مقارنة بتوقعاته السابقة البالغة %3، وفيما توقع البنك الدولي أن تسجل الولايات المتحدة الأمريكية نموًا ضعيفًا %0.7، فإن معدلات النمو في أوروبا ستنعدم، وهو ما يعني أننا سنكون إزاء نمو اقتصادي هو الأضعف منذ ثلاثة عقود، بعد الركود الشديد الذي نتج عن الأزمة المالية العالمية عام 2008م والركود الناجم عن جائحة فيروس كورونا عام 2020م.
ورغم توقعات صندوق النقد الدولي المتشائمة بحدوث موجات كساد في العديد من دول العالم عام 2023م فإن توقعاته كانت أكثر تفاؤلاً تجاه الاقتصادات الناشئة، حيث أكد أن مستوى نمو الاقتصادات الناشئة في 2023م سيستقر عند مستواه مقارنة بالعام الماضي 2022م.
الاستقرار وسياسات الإصلاح
على الرغم من تلك المخاوف والتوقعات المتشائمة، فإنه لا يمكن في الوقت ذاته تجاهل بعض المؤشرات الإيجابية الناتجة عن محاولات العديد من الحكومات التعامل مع الأزمة المالية الحالية، من خلال الالتزام بتعديل سعر الصرف وزيادة الفائدة لاحتواء التضخم، ولجذب المستثمرين الأجانب وتشجيع تدفقات رأس المال إلى البلاد، فغنى عن القول إن الاستقرار وسياسات الإصلاح فضلاً عن العوائد المرتفعة وضعف قيمة العملة المحلية يجذبان المستثمرين الأجانب في الغالب، بل ويزيد من إقبالهم على الأصول عالية المخاطر، بما في ذلك، سوق الأسهم والمشتقات بكافة أنواعها، وقد أبدى بالفعل النمو الاقتصادي مقاومة في الربع الثالث من عام 2022م في ظل قوة أسواق العمل، وقوة استهلاك الأسر واستثمارات الأعمال، والتكيف مع أزمة الطاقة.
وخلال الأسبوع المنتهي في 11 يناير 2023م اجتذبت صناديق الأسهم العالمية أول تدفق أسبوعي لها منذ 3 نوفمبر 2022م في ظل المؤشرات الإيجابية بشأن تباطؤ التضخم وإلغاء الصين للإجراءات الاحترازية المرتبطة بجائحة كورونا، حيث تم جذب صافي مشتريات بمقدار5.17 مليار دولار.
مؤشرات إيجابية
وجذبت صناديق السندات العالمية قصيرة الأجل تدفقات بلغت 3.89 مليار دولار، بينما اجتذبت السندات متوسطة الأجل حوالي 3.56 مليار دولار، والسندات عالية العائد تدفقات بقيمة 1.89 مليار دولار، ومع ذلك، فإنه يجب أن ننتبه إلى أن ارتفاع أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، له آثاره السلبية، ومنها أنه يبطئ النمو في البلدان الغربية، وحتى عندما يجذب رؤوس الأموال الاستثمارية من البلدان الفقيرة، فإن ذلك معناه حرمان تلك البلدان من الاستثمار المحلي.
ومن المؤشرات الإيجابية أيضًا، تصريحات المدير العام لصندوق النقد الدولي “كريستالينا جورجيفا”، حيث قالت “إن الوضع الاقتصادي أقل سوءًا مما كنا نخشى”، مضيفةً بأن هناك عدة أسباب للتفاؤل، أولها بدء التضخم في الانخفاض، وثانيًا تحسن قدرة الصين على تعزيز النمو، وارتفاع معدلات نمو الاقتصاد الصيني إلى أكثر من المتوسط العالمي، كما يمكن أن تلعب الهند إلى جانب الصين دورًا محوريًا، حيث يمكن أن يسهما معًا في نصف النمو العالمي خلال العام الحالي.
تفاؤل حذر
كما انخفض التضخم في منطقة اليورو خلال نوفمبر وديسمبر 2022م مع تباطؤ نمو تكاليف الطاقة، ليهبط إلى %10، فيما أظهرت بيانات وكالة الإحصاءات الأوروبية “يوروستات”، وصول معدل التضخم، الذي يشمل تكاليف الغذاء والطاقة إلى %9.2 في ديسمبر 2022م بعدما بلغ %10.1 في الشهر الذي يسبقه.
وفي سياق مشابه، ولكن في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتزامن مع دراسة لجامعة ميتشيجان الأميركية، أكدت فيها تراجع توقعات التضخم في الولايات المتحدة على المدى القصير في بداية يناير 2023م إلى أدنى مستوياتها في عامين، فقد أعربت وزيرة الخزانة الأميركية “جانيت يلين” عن تفاؤلها الحذر بشأن التضخم في بلادها، موضحةً أن هناك مؤشرات مشجعة في ظل تراجع أسعار الطاقة وتحسن أوضاع سلاسل الإمداد حول العالم، وهو ما بدأ ينعكس على أسعار السلع، التي بدأت في التراجع أواخر العام الماضي 2022م متوقعةً أن يتراجع معدل تضخم أسعار المساكن بحلول منتصف العام الجاري 2023م.
الهجرة العكسية
ولو دققنا في اتجاهات الاستثمار وتدفقات رؤوس الأموال حول العالم، يمكن أن نلاحظ أن هناك هجرة عكسية للاستثمارات إلى وسط وجنوب العالم، وذلك بعد عقود من الاتجاه المستمر في حركة الأموال نحو دول الغرب، حيث بدأ المستثمرون يرون في بعض دول الجنوب والشرق استقرارًا أفضل، مقارنةً بأسواق المال العالمية الأخرى التي تشهد مخاطر عالية، خاصةً في ظل النزاع الروسي الأوكراني، وحدوث اضطرابات واحتجاجات في الكثير من الدول المتقدمة.
وهذا ما يذكرنا بعام 2008م عندما قطعت الأزمة المالية العالمية سلسلة من النمو المطرد في حركة الاستثمار الأجنبي دامت لعدة سنوات، فقد أدت إلى اضطرابات كبيرة في الحركة الدولية لرؤوس الأموال، خاصة في المراكز المالية الكبرى، وبالرغم من مقاومة البورصات والحكومات ومحاولات الهروب الجماعية لرؤوس الأموال، إلا أن ذلك لم يمنع من إعادة التوزيع ـ ولو بشكل بسيط ـ لاتجاه الحركة الدولية لرؤوس الأموال.
وفي بعض بلدان الشرق، بدأت بالفعل عودة المستثمرين الأجانب بعد سلسلة الإصلاحات الهيكلية التي تشهدها بعض الدول خاصة دول الخليج، وكذلك انخفاض قيمة العملة المحلية في بعضها، ومن ثم انخفاض قيمة الأصول بالنسبة لهم، وهو ما يخفف من أزمة نقص العملة الأجنبية في تلك البلدان، وذلك بعد فترة عصيبة، قام فيها المستثمرون الأجانب بسحب مليارات الدولارات من تلك الدول، على خلفية الحرب في أوكرانيا، وارتفاع التضخم.
أسواق الطاقة والغذاء
على الرغم من التوقعات المتفائلة بأن يتراجع التضخم العالمي خلال عام 2023م، إلا أنه حتى مع حلول عام 2024م، سيظل المتوسط السنوي المتوقع لمعدلات التضخم أعلى من المستويات، التي كانت قبل الجائحة فيما يزيد على %80 من البلدان، خاصةً أن الحرب في أوكرانيا لا تزال تشكل تهديدًا للاستقرار والاقتصاد العالمي، خاصةً فيما يتعلق بأسواق الطاقة والغذاء.
كذلك من المتوقع أن يخسر الناتج الاقتصادي العالمي 4 تريليونات دولار حتى عام 2026م بسبب تزايد خطر الركود، وأن يتباطأ الاقتصاد العالمي في 2023م، قبل أن يعاود مسيرة التعافي، حيث تشير التقديرات إلى أن النمو العالمي سوف يتباطأ من %3,4 في 2022م إلى %2,9 في 2023م ثم يعود إلى الارتفاع ويبلغ %3,1 في 2024م.
لتجنب الذعر المالي
وفي ظل تلك المؤشرات، وتجنبًا لحدوث صدمات فجائية أو ارتفاعات بمعدلات غير مسبوقة للتضخم أو حالات من “الذعر المالي”، يترتب عليها هروب في الاستثمارات تضرب الاستقرار المالي، فإن الأمر يتطلب اتخاذ العديد من التدابير والخطوات والإجراءات، ومنها:
- توفير برامج حماية اجتماعية ومساعدات للدول النامية، سواء من الدول الكبرى أو من المنظمات الإقليمية والدولية، لتجنب حدوث اضطرابات اجتماعية تزيد من التدهور الاقتصادي العالمي.
- إتباع سياسات نقدية انكماشية لمواجهة التضخم، بتقليل المعروض النقدي في اقتصاد الدولة، وتقليل الإنفاق من خلال خفض أسعار السندات وزيادة أسعار الفائدة، مع إجراء دراسات وحسابات دقيقة، حتى لا يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية إلى حدوث تباطؤ في الاقتصاد الكلي، خاصًة، إذا كان التضخم ناتجًا عن ضعف الإنتاج وليس ناتجًا عن ارتفاع القوة الشرائية، ففي هذه الحالة قد لايؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى تحقيق النتائج المرجوة، بل قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية.
- استحداث وابتكار آليات لجذب الاستثمارات الأجنبية، الهادفة إلى إنشاء مصانع وشركات وتحقيق قيمة مضافة للسوق المحلى، وليس فقط الاكتفاء بضخ أموال للاكتتاب في البورصة.
- ضرورة عدم الاعتماد كثيرًا على الأموال الساخنة في الاقتصاد والاستثمار، خاصة أن تلك الأموال عالية المخاطر، وقد تخرج من الأسواق المحلية فجأة.
- اتباع قواعد السلامة المالية والإفصاح والشفافية والمراجعة المحاسبية للشركات الدولية، الأمر الذي سيكون له أثره، فيما يتعلق بتقليل المخاطر الرأسمالية وزيادة ربحية الاستثمارات المالية.
- ضرورة توفير المعلومات والتقارير المالية عن الشركات ونشاطاتها وعن كيفية وسبل التحقق من سلامة الأصول المالية المتداولة في البورصات الدولية.
- تفعيل قواعد الحوكمة المالية الدولية، بما يشمل أنشطة الشركات والأسواق المالية الدولية، من أجل ضمان التدفق المربح والآمن لرؤوس الأموال.