أسواق استثمار

قصة المال الجريء

تضاعفت أرباح شركت دوريو قرابة الـ 9 أضعاف باستثماره في شركة ناشئة ابتكرت تقنية الأشعة السينية للمساعدة في تشخيص مرض السرطان

عندما يتخذ المستثمر قراره بدعم شركة ناشئة، فإنه بالطبع يكون قد جذبته أفكار أو منتجات تلك الشركة، ووجد أنها تمتلك فرصًا استثمارية وقدرة على النمو المستقبلي

 

سعيًا لمزيد من التعلم والدراسة في مجال إدارة المال والأعمال الذي كان مزدهرًا ومتسعًا في الولايات المتحدة الأمريكية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، قرر شاب فرنسيً يدعى جورج دوريو، الذي كان يؤمن بأنه (كلما زادت المخاطرة زادت الأرباح)، الانتقال إلى ولاية ماساتشوستس الأمريكية للالتحاق بكلية هارفارد للأعمال، التي حصل فيها على شهادة في إدارة الأعمال وأصبح أستاذًا فيها، ومن ثم أخذه شغفه وطموحه عام 1946م إلى تأسيس مؤسسة البحث والتطوير الأمريكية (ARDC) لتسويق التقنيات، التي تم تطويرها خلال الحرب العالمية الثانية.

وكان أول استثمار له بما قيمته 200 ألف دولار في شركة ناشئة ابتكرت تقنية الأشعة السينية للمساعدة في تشخيص مرض السرطان، وكانت المفاجأة بأن تضاعفت أرباح شركته قرابة الـ 9 أضعاف، فلقب حينها بالأب الروحي لرأس المال المجازف أو الجريء.

وأخذ دوريو يشارك في تمويل العديد من الشركات الناجحة بالولايات المتحدة، وكانت من أبرز استثماراته الناجحة فترة الستينيات، في شركة المعدات الرقمية (DEC)، المنتجة لأجهزة الكمبيوتر ولكنها كانت تعاني تمويليًا نظرًا لطبيعة الخوف من الاستثمار في الحواسيب تلك الفترة، ولكنّه قرّر المخاطرة وتقديم التمويل عبر شركته لهذه الشركة مقدمًا لها خطة عمل ترتكز بدرجة أقل على أجهزة الكمبيوتر، من خلال مرحلتين بدأت المرحلة الأولى ببيع وحدات الكمبيوتر كأجهزة قائمة بذاتها حتى يمكن شراؤها بشكل منفصل وربطها معًا لإنتاج عدد من الأنظمة الرقمية المختلفة، وبالفعل حققت الشركة طفرة في أرباحها، إذ كان يحقق دوريو عائدًا سنويًا بنسبة %101.

انهيار الدوت كوم

ومع رواج العمل في هذا المجال من الاستثمارات الجريئة شهدت الشركات الأمريكية منافسة من الشركات الأجنبية، وخاصة الشركات اليابانية والكورية في الثمانينيات، ولكن في أوائل القرن الحادي والعشرين، تعرّض أصحاب رؤوس الأموال، الذين استثمروا في شركات التكنولوجيا لخسائر فادحة أثناء أزمة “انهيار الدوت كوم”، والمعروفة أيضًا باسم فقاعة الإنترنت، والتي حدثت بسبب وجود الاستثمار القائم على المضاربة، ووفرة تمويل رأس المال الاستثماري للشركات الناشئة وفشل شركات الإنترنت في جني الأرباح، وغيرها من الأسباب ذات الصلة، ولكن بعد انتهاء تلك الأزمة شهد هذا المجال نموًا تصاعديًا، وصل إلى أكثر من 47 مليار دولار في رأس المال الاستثماري.

وأصبح مفهوم الاستثمار الجريء Capital) Venture) متداولاً في عالم الأعمال والاستثمار، خلال الفترات الأخيرة؛ وذلك لوصف القطاع أو النشاط، الذي يضم الشركات والمستثمرين، الذين لديهم الجرأة وشغف المجازفة، ولديهم الرغبة في الدخول إلى مجالات ومشروعات جديدة، وهو ما يحقق لهم السبق، كما قد يُدر عليهم أرباحًا كبيرة، خاصةً أن مشروعات “الاستثمار الجريء”، غالبًا ترتبط بفكرة جديدة.

استثمار عالي المخاطر

ويتضمن “الاستثمار الجريء”، والذي يُطلق عليه أيضًا رأس المال المُخاطر ورأس المال الاستثماري، ذلك التمويل الذي تُقدمه البنوك والشركات الكبرى وكبار المستثمرين للشركات الصغيرة والناشئة، التي من المأمول أن يكون لديها الأفكار والإمكانات الفنية والإدارية وتفرّد المنتجات والخدمات، وهو ما يؤهلها لتحقيق النمو والعوائد الكبيرة، وليس معنى ذلك، أن الاستثمار الجريء يتضمن الدعم المالي فقط، ولكنه يشمل أيضًا أنظمة دعم جديدة، كالخبرات والاستشارات الفنية والإدارية، وبمعنى آخر، فإن الاستثمار الجريء هو بمثابة استثمار في مشروعات ناشئة أو مشروعات في بدايتها، وغالبًا ما تكون تلك المشروعات قائمة على فكرة جديدة ولكنها تحتاج إلى تمويل وتسويق يظهرها إلى النور.

ولأن هذا الاستثمار عالي المخاطر، فإنه يجب على الشركات الراغبة في العمل بمجاله، أن يكون لديها القدرة على تحمّل الخسائر الناتجة عن الدخول في هذا المجال الجديد، ويشجعها على ذلك أنه مثلما تكون المخاطر عالية، فإن المكاسب والأرباح في حال النجاح تكون أيضًا مجزية.

وتنقسم الجهات التي تعمل في مجال الاستثمار الجريء إلى نوعين، الأول يتمثل في الجهات الممولة سواء كانت مجموعة من المستثمرين أو مستثمر واحد، أفرادًا كانوا أو مؤسسات أو بنوكا، والذين يقومون بضخ استثماراتهم في الشركات الناشئة، أما النوع الثاني فيتثمل في صناديق الاستثمار التي ينصب دورها في دراسة أداء المشروعات الجديدة والشركات الناشئة وإقناع المستثمرين بضخ أموالهم والاستثمار فيها.

جورج دوريو

أفكار ومنتجات جاذبة

وعندما يتخذ المستثمر قراره لدعم شركة ناشئة، فإنه بالطبع يكون قد جذبته أفكار أو منتجات تلك الشركة، ووجد أنها تمتلك فرصًا استثمارية وقدرة على النمو في المستقبل، وتكون الشركة الناشئة في المقابل في حاجة لدعم مادي، أو خبرات فنية، أو إمكانيات تسويقية، أو غيرها.

ويمكن أن تكون المصالح المشتركة بين الطرفين في مرحلة ما من مراحل نمو الشركة، أو في كافة المراحل، وهو ما يتضح من خلال سرد ما يمكن للمستثمر أن يقوم به لدعم الشركة الناشئة، التي قرر الاستثمار فيها:

  • توفير التمويل اللازم لظهور المنتج أو الخدمة الجديدة.
  • الدعم من خلال توفير أبحاث السوق والمساعدة في فتح أسواق جديدة للشركة الناشئة بالخبرات التسويقية أو دعمها بفريق مبيعات محترف.
  • الدعم من خلال الحملات الإعلانية والدعائية المختلفة.
  • تقديم الاستشارات الفنية والخبرات الإشرافية، والإدارية، والقانونية، والضريبية.

ولذلك، فإن حصول الشركات الناشئة على اهتمام ودعم رأس المال الاستثماري يُعد أمرًا إيجابيًا لتلك الشركات، ليس فقط بحصولها على ضخ استثمارات مالية كبيرة، ولكن لأن ذلك يُمكّنها أيضًا من التمتع بقدرات وإمكانيات فنية وتسويقية ضخمة ويفتح الطريق أمام فرص جديدة ولنمو العمل واكتساب مكانة أفضل في المجال، كما أن دخول مستثمرين محترفين يخفّف من المخاطر من خلال مراقبة الاستثمارات بشكل عملي ودعم رواد الأعمال لضمان نجاحهم.

رؤية مستقبلية محترفة

ولا شك أن دعم الشركات الصغيرة والناشئة والمشروعات الجديدة ذات الأفكار المبتكرة، يُعد فرصة للشركات الكبرى التي تواجه صعوبات في التوسع وفي الوصول إلى أسواق جديدة أو ابتكار منتجات وخدمات تواكب التغيرات المتسارعة من حولها، إلا أن ذلك يجب أن يتم من خلال قواعد ودراسات، بحيث يتأكد المستثمرون أن الاستثمار في شركات ناشئة بعينها، يمكن أن يمثل استثمارًا ناجحًا، فغني عن القول إن أصحاب رأس المال الجريء لا يتعاملون بعشوائية في ضخ استثماراتهم.

ومن المعايير التي تستند إليها الشركات الكبرى في ضخ استثماراتها تجاه الشركات الناشئة، مدى وإمكانية التوسع في ضوء رؤية مستقبلية محترفة تدرس أبعاد السوق، وتعي نوعية المنتجات والخدمات التي تقدّمها الشركات الناشئة ومدى قدرة تلك المنتجات والخدمات على المنافسة والاستحواذ على حصة مناسبة.

وأيضًا من الأفضل للشركات الراغبة في العمل بمجال الاستثمار الجريء، أن تستثمر في شركات في نفس تخصصها، حتى يكون لديها الخبرات الكافية للتعامل مع الشركات الناشئة وتقييم ظروفها وإمكانياتها واحتمالات نجاحها، بمعنى أنه ليس من الحكمة أن تقوم شركة كبرى تعمل في مجال المنتجات الغذائية بدعم شركة ناشئة في مجال العقارات، أو العكس.

انتقاء الشركة الناشئة

وعلى الناحية الأخرى، فإنه ليس معنى أن هناك نموًا في مجال الاستثمار الجريء، أن الطريق ممهد لكافة الشركات الناشئة للحصول على هذا التمويل أو الدعم، بل أن معظم رواد الأعمال يواجهون صعوبات بالغة في جذب المستثمرين العاملين في مجال الاستثمار الجريء، بسبب كثرة المشروعات الجديدة والشركات الناشئة، أو بسبب التأني من جانب الشركات الكبرى والمستثمرين لضخ أموالهم وتقديم الدعم، وكذلك بسبب عملية فرز واختيار وانتقاء الشركة الناشئة التي سيقرر المستثمرون الاستثمار فيها من بين آلاف الشركات الناشئة.

ولذلك، يجب على الشركات الناشئة، أن تزن أولاً قيمتها في السوق، وقيمة أفكارها، لتقيّم نفسها تقييمًا صحيحًا، لأن مبالغة تلك الشركات في تقدير قيمتها، يمكن أن يؤدي إلى عزوف المستثمرين عن الاستثمار فيها، أو العكس، إذ أن التقليل من تقييم الشركة الناشئة يُخفّض قيمتها ويمنح للمستثمرين حجم أكبر من الأسهم يفوق قيمة التمويل المقدم.

التمويل الجماعي

كذلك يجب إعطاء الأهمية للآليات المستحدثة لتمويل المشروعات الناشئة، مثل التمويل الجماعي بالملكية، فمن خلال منصات التمويل الجماعي المصرّح بها والخاضعة لإشراف الجهات التنظيمية والرقابية، يمكن توظيف التكنولوجيا والتقنيات المالية في جمع التمويل لرواد الأعمال والشركات لتنفيذ أفكارهم والتوسع من خلال بيع جزء من حصص ملكية شركاتهم على المستثمرين.

فإن الاستثمار الجريء، بالإضافة إلى دوره في تنشيط الاقتصاد والمساهمة في نمو وتنويع أنشطته، فإن الميزة الكبيرة التي يتفرّد بها هو دوره المحوري في تمويل شركات ـ خاصة في مجال التقنيات والتكنولوجيا ـ لم تكن مضمونة النجاح، ولولا الدعم المقدم من المستثمرين ما كان لها أن تحقق ما حققته من نجاحات، الأمر الذي يؤكد ضرورة الاهتمام بهذا المجال، وإعطاءه الأهمية التي يستحقها، ودعمه بكافة السبل الممكنة، سواء ماليًا أو تشريعيًا وقانونيًا لتسهيل عمله والمساهمة في نموه.