أسواق مصارف

أزمة على ورق

اتخذت الهيئة الفيدرالية الألمانية للمصارف قرارًا استباقيًا بتجميد أصول وحدة بنك سيليكون فالي، معلنةً أنه لن يسمح للبنك ببيع الأصول أو إجراء مدفوعات بسبب احتمالية عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات

باولو جينتيلوني: انهيار بنك سيليكون فالي في الولايات المتحدة لا يمثل تهديدًا خطرًا لأوروبا

 

في مارس الماضي تعرضت ثلاثة مصارف أمريكية للإفلاس، كلها تعمل كبنوك لشركات التكنولوجيا الناشئة وهي: سيجنتشر بنك، وسيلفر جيت بنك وبنك سيليكون فالي، الذي يمتلك وحده، وفقًا لأخر بيانات متاحة في ديسمبر2022م ما يقرب الـ 209 مليارات دولار من الأصول و175 مليارًا من الودائع.

وأثارت تلك الانهيارات المصرفية، العديد من المخاوف من حدوث أزمة مالية وانتقال عدواها إلى أماكن أُخرى، داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، خاصةً أن تلك الأزمة، لم تكن الأولى، التي تشهدها الولايات المتحدة تحديدًا، بل شهدت أزمات إفلاس كثيرة، كان أبرزها إفلاس بنك “ليمان براذرز” في سبتمبر 2008م، والذي كان كاشفًا لبدء الأزمة المالية العالمية، التي زلزلت العالم، وانتقلت عدواها إلى 19 بنكًا.

ملابسات الأزمة

وتعود ملابسات أزمة مارس 2023م، بصدور بيان للمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC)، قررت فيه فرض الحراسة على بنك سيجنتشر بنك وهو ثالث بنك يتعرض للانهيار في أقل من أسبوع بعد التصفية الطوعية لبنكي سيلفرجيت، ووادي السيليكون، وعلى الرغم من اختلاف البنوك الأمريكية الثلاثة، التي أعلنت إفلاسها، في حجم أصولها وودائعها، إلا أن بنك سيليكون فالي، هو أكبر تلك البنوك من حيث الأصول والودائع، كما أنه أكبر ممول للشركات الناشئة هناك.

وقد ظهرت أزمة سيليكون فالي بعد إعلانه في 10 مارس اعتزامه إصدار أسهم بقيمة 2.25 مليار دولار لسد الفجوة التمويلية وتعزيز موارده المالية وإعادة المخصصات لمستواها الطبيعي، بعد خسارة كبيرة في محفظته الاستثمارية، جراء تبخر السيولة المالية لديه في سداد فوائد الودائع لعملائه.

ودعا البنك عملاءه إلى عدم سحب هذه الودائع، وعدم بث الخوف والذعر؛ حيث كان متوقعًا أن تؤدي عمليات السحب الجماعية إلى إجبار البنك على بيع الأصول للحصول على السيولة اللازمة، وزادت الأزمة تعقيدًا في ظل أن هذه الأصول، والتي تشمل سندات، قد انخفضت قيمتها منذ شرائها بشكل كبير، نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة.

انتقال العدوى

وبالفعل، لم يستطع البنك استيفاء طلبات المودعين بتوفير أموالهم في ظل نقص السيولة المالية، وقرر البنك بيع سندات بقيمة 21 مليار دولار، متحملاً خسارة قدرها نحو 1.8 مليار دولار في هذه العملية، محاولاً تأخير الوقت، الذي يُعلن فيه عدم قدرته على رد أموال المودعين، ومع المزيد من الانهيار في قيمة السهم، انهالت طلبات المودعين بسحب ما قيمته 42 مليار دولار، الأمر الذي كان كاشفًا لانهيار البنك.

وفي مؤشر على بدء انتقال عدوى الانهيارات إلى أوروبا، أعلنت السلطات السويسرية 19 مارس، أنها بصدد دراسة التأميم الكامل أو الجزئي لبنك كريدي سويس، بعد أن واجه البنك مشكلات متعاقبة خلال العامين الماضيين، وانهارت أسهمه بنسبة %85 ثم جاءت الأزمة الأخيرة، ليسحب المودعين مبالغ ضخمة بعشرات المليارات.

وتبرز أهمية بنك كريدي سويس العملاق، والذي تم إنشاؤه عام الـ 1856، وصار أحد العلامات التجارية السويسرية حول العالم، باعتباره أحد 30 بنكًا حول العالم يحرص مهندسو القطاع المصرفي الدولي، على عدم انهيارهم لخطورة ذلك على القطاع المالي في شتى بقاع العالم.

ارتفاع أسعار الفائدة

وثمة العديد من الأسباب التي كانت وراء إعلان إفلاس بنك سيليكون فالي، لعل أبرزها ما أعلنه البنك نفسه وهو رفع سعر الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وبمعنى آخر، فإن ارتفاع معدل التضخم حول العالم هو السبب وراء حدوث موجة الانهيارات والإفلاسات.

وفي هذا السياق، يرى بعض الخبراء أن الأزمة الحالية اندلعت جراء ارتفاع أسعار الفائدة؛ حيث اضطرت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة من أجل مواجهة التضخم، إلا أن ذلك أدى إلى التأثير على قطاع الشركات الناشئة وتقييد الإنفاق الاستهلاكي، ولذلك، فقد جاءت موجة الانهيارات الأخيرة، لتضغط على البنوك المركزية لإبطاء وتيرة رفع أسعار الفائدة لما لها من تداعيات وآثار سلبية على استقرار النظام المالي.

ويأتي ما يُعرف بالودائع غير المؤمنة؛ ضمن الأسباب التي يجب وضعها في الاعتبار عند الحديث عن انهيار سيليكون فالي، الذي كانت تزيد ودائعه غير المؤمنة على 250 ألف دولار، والتي بلغت نسبتها حوالي %87 من ودائع البنك، في تعرض البنك لعمليات سحب كبيرة مفاجئة من العملاء، وفي هذا الصدد، فقد أشارت دراسة أمريكية إلى أن 186 مؤسسة ائتمانية أميركية مهددة بالانهيار نتيجة سياسة رفع أسعار الفائدة من جهة، ووجود نسبة عالية من الودائع غير المؤمنة.

وكذلك ما أتخذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتحديدًا في عام 2018م بتخفيف اللوائح المصرفية، التي كان من شأنها أن تضع بنك سيليكون فالي تحت إجراءات إشراف أكثر صرامة، فضلاً عما شهده عام 2022م من انخفاض لتقييمات الشركات الناشئة وإحجام كثير من المستثمرين عن ضخ الأموال فيها، وكنتيجة لذلك، اضطرت تلك الشركات للاستعانة بودائعها المتراكمة في البنوك، الأمر الذي أحدث مشكلة كبيرة في السيولة لدى البنوك.

تقييمات الشركات الناشئة

غني عن القول، إن تمويل الشركات التكنولوجية الناشئة، هو أحد أخطر أنواع الاستثمار حاليًا، ويزداد الأمر صعوبة، إذا علمنا أن تقييمات تلك الشركات كانت غير مبررة في كثير من الأحيان، فالمعروف أن تقييم الشركات عادة ما يتم على أسس كثيرة، أهمها الأرباح والقدرة على توليد الدخل في الوقت الحالي، وليس في المستقبل، ولكن الشركات الناشئة كانت على خلاف ذلك، إذ يمكن أن تستمر في السوق بدون مكاسب لـ 10 سنوات، مكتفية بالتوسع وامتلاك حصة أكبر من السوق وبناء قاعدة عملاء جديدة.

ناهيك عن القرارات الاستثمارية الخاطئة، ومنها استثمار سيليكون فالي ما يقرب من نصف الودائع في سندات طويلة المدى، على أمل أن تلك الودائع سيبقيها أصحابها في البنك وأن الشركات المودعة لن تضطر لسحبها لتمويل عملياتها، وأيضًا ما حاز عليه البنك من ودائع كبيرة أثناء وبعد جائحة كورونا، في ظل تقديمه للقروض للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في الولايات المتحدة وخارجها، إلا أن البنك تعرض لـ “خسائر دفترية”، عقب ارتفاع أسعار الفائدة، الأمر، الذي دفع عملاء البنك إلى سحب ودائعهم.

أزمتا 2008م و2023م

أثارت قضية إفلاس البنوك الأمريكية، وخاصةً بنك سيليكون فالي، وما تلاها من إفلاس بنك كريدي سويس في سويسرا، المخاوف بشأن إمكانية حدوث انهيارات في الاقتصاد العالمي، وتعرض عدد من البنوك للمصير نفسه، خاصةً أن هناك تأثيرات وتداعيات اقتصادية بالفعل حول العالم نتيجة للأزمة الروسية ـ الأوكرانية، وتداعيات جائحة كورونا.

ومع أن القلق من احتمالية تحوّل أزمة انهيار البنوك الأمريكية إلى أزمة عالمية على غرار ما حدث في 2008م هو قلق مشروع وربما مبرر، إلا أن الأزمة الحالية يبدو على الأرجح أنها لن تتطور إلى هذا الحد، للعديد من العوامل، منها: ما يتعلق بأسباب الأزمة، ومنها ما يتعلق بكيفية التحرك لمواجهة الأزمة الحالية، انطلاقًا من الدروس المستفادة لأزمة 2008م وهو ما يمكن توضيحه من خلال النقاط التالية:

  • أحد الاختلافات الكبيرة، بين الأزمتين أن الأولى بدأت بارتفاع أسعار العقارات بشكل مبالغ فيه، وارتفاع نسبة الاقتراض بين المستثمرين مع عدم وجود لوائح تنظيمية صارمة وتلاعب بالبيانات، وبعدها بدأت عدوى انهيار البنوك تنتقل إلى مختلف دول العالم.
  • أزمة 2023م ليس لها علاقة بارتفاع أسعار سلع معينة دون غيرها، أو ارتفاع رغبة المستثمرين في المخاطرة، ولكن لها أسباب أخرى، تتعلق بمدى القدرة على توفير البنك للسيولة للمودعين، وتراجع نسبة إيداع مؤسسات الاستثمار الجريء لأموالها في البنوك أو ضخ تمويلاتها للشركات الناشئة.
  • تختلف أسباب الأزمة الحالية عن مسببات أزمة 2008م فوفقًا لبعض المسؤولين والخبراء الماليين، فإن أزمة سيلكون فالي، وخسائر البنوك الأمريكية بشكلٍ عام، هي خسائر دفترية أو ورقية ستنتهي بمجرد احتواء الأزمة.
  • انهيار البنوك الأميركية، خلال العام الحالي، بدأت كأزمة “سوء إدارة” وتحولت إلى “أزمة ثقة”، في ظل تأهب المستثمرين لاحتمالية اندلاع أزمة مالية عالمية جديدة.
  • على الرغم من احتمال حدوث تأثير لإفلاسات البنوك الأمريكية على القارة الأوروبية، إلا أن ذلك سيكون محدودًا وغير مباشر، وهو ما أوضحه “باولو جينتيلوني” مفوض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، في تعليقه على مخاوف المستثمرين من إمكانية انتقال العدوى، حيث أكد أن انهيار بنك “سيليكون فالي” في الولايات المتحدة لا يمثل تهديدًا خطرًا لأوروبا.
  • الوضع الآن أصبح مختلفًا، فبعد أزمة 2008م وإفلاس بنك ليمان براذرز، أصبح على المصارف تقديم ضمانات قوية لسلطة ضبط الأسواق الأمريكية والأوروبية، وعلى سبيل المثال، فإن “الهيئة المصرفية الأوروبية” باتت تُخضع خمسين بنكًا رئيسياً في أوروبا لاختبارات الملاءة المالية.
  • تشديد السلطات الأوروبية الرقابة على المصارف والمتابعة الصارمة من البنك المركزي للسلامة المالية للبنوك، مقارنة بالولايات المتحدة ذاتها، فخلال الأزمة الحالية، خفضت مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني توقعاتها المستقبلية للقطاع المصرفي الأميركي، لكنها لم تخفض توقعاتها لتصنيف البنوك الأوروبية، وتجدر الإشارة على سبيل المثال، إلى أن 400 مجموعة مصرفية أوروبية تخضع لمعايير بازل3 التي تم وضعها بعد الأزمة المالية في عام 2008م في مقابل 13 في الولايات المتحدة.
  • التدخل القوي من قبل واشنطن، في أزمة انهيارات البنوك 2023م، ساهم في استيعاب الأزمة وعدم تكرار أزمة الرهن العقاري عام 2008م؛ حيث تم التحرك سريعًا لتشديد الرقابة على سياسات الإقراض، خاصةً للمؤسسات الناشئة العاملة في مجال التكنولوجيا، وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن فرض قواعد أكثر صرامة لتعزيز القواعد المنظمة للبنوك، مطمئنًا الأمريكيين أن نظام المصارف في الولايات المتحدة في أمان، كما قررت واشنطن، إتاحة وصول جميع المودعين إلى حساباتهم اعتبارًا من 13 مارس، لطمأنتهم والحيلولة دون حدوث حالة من الذعر والانهيار.
  • تدخلت الحكومة السويسرية، هي الأخرى، لإنقاذ بنك كريدي سويس، وقيامها بدعم استحواذ بنك يو بي إس، على بنك كريدي سويس وتقديمها سيولة كبيرة للبنكين المندمجين تصل إلى 100 مليار فرنك (108 مليارات دولار)، وذلك في محاولة لتجنب وقوع اضطرابات في القطاع المصرفي السويسري والعالمي، وهو ما منح الثقة للمودعين وأدى إلى استعادة ثقة المستثمرين وتخفيف الضغط على البورصات.
  • قامت الحكومة البريطانية بتسهيل بيع وحدة بنك سيليكون فالي في بريطانيا إلى بنك إتش.إس.بي. سي وهو ما يصب في خانة حماية الودائع.
  • اتخذت الهيئة الفيدرالية الألمانية للمصارف قرارًا استباقيًا بتجميد أصول وحدة بنك سيليكون فالي في البلاد، معلنةً أنه لن يسمح للبنك ببيع الأصول أو إجراء مدفوعات بسبب احتمالية عدم القدرة على الوفاء بالتزامات البنك تجاه الدائنين.

وهكذا، فإن اختلاف أسباب الأزمة المالية العالمية عام 2008م عن أزمة انهيارات البنوك الأمريكية في 2023م، وكذلك التحرك السريع من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية لاحتواء الأزمة، ساهم في السيطرة على الأوضاع إلى حد كبير، ومنع انتقال عدوى الانهيارات المصرفية إلى عدد أكبر من البنوك حول العالم، ولكن يجب في الوقت ذاته التعامل بحذر مع مسببات الأزمة الحالية، وعدم التهاون في مواجهتها، ومراقبة الأوضاع عن كثب، حتى لا تتدهور الأمور.