أسواق عملات

خفض العملة أم ارتفاعها؟

إذا كانت القاعدة العامة، هي أن معظم الدول تستهدف رفع قيمة عملتها، إلا أنه على العكس من ذلك، فإن هناك دولاً سعت للنقيض، وحاولت بكل أدواتها الحفاظ على قيمة عملتها منخفضة

الصادرات السلعية الصينية بلغت 3.36 تريليونات دولار في عام 2021م بسبب انخفاض “اليوان”، وأن انخفاض قيمة “الين” جاء في مصلحة الشركات اليابانية الكبرى وعظّم من أرباحها

 

يُعد تحديد سعر صرف العملة الوطنية من أهم التحديات، التي تواجه أي دولة أثناء تحديد ملامح سياستها النقدية العامة، وعلى الرغم من أن البعض يتصور أن كافة الدول تسعى لرفع قيمة عملتها، إلا أن ذلك أمر غير دقيق، ففي بعض الحالات تسعى بعض الدول إلى تخفيض قيمة عملتها، أو على الأقل الحفاظ على قيمتها ومنعها من الارتفاع!

ويعني ذلك أن كل دولة تدير سعر وقيمة عملتها الوطنية بشكل يتناسب مع الوضع السياسي وطبيعة اقتصادها ومواردها وسياساتها النقدية والمالية والاستثمارات المحلية والدولية وغيرها من الاعتبارات.

ربط الدولار بالذهب

كان تحديد سعر صرف العملات يتم منذ الحرب العالمية الثانية، من خلال الربط بالدولار الأمريكي المرتبط بالذهب، فبموجب اتفاقية بريتون وودز، التي جرى توقيعها عام 1944م، تعهدت الولايات المتحدة بتحويل أي دولار تجلبه البنوك المركزية في البلدان الأخرى إلى ذهب بمعدل 35 دولارًا للأونصة، وهو ما يعني تداول العملات الأُخرى بأسعار صرف ثابتة مقابل الدولار، وجعل ذلك النظام المالي الغربي وربما العالمي بأكمله مرتبطًا بالدولار.

وفي عام 1971م تم فك ارتباط الدولار بالذهب، إذ قام الرئيس نيكسون بسلسلة من التدابير الاقتصادية، كان أبرزها تعليق التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب، ومع أن تلك الإجراءات لم تلغِ نظام بريتون وودز للصرف المالي الدولي بشكل رسمي، فإن تعليق أحد ركائزه الرئيسية جعلت هذا النظام معطلاً ومنعت دول العالم المختلفة من تبادل الدولار بالذهب، وبحلول عام 1973م، تحول نظام بريتون وودز إلى نظام تعويم العملات وأصبح تسعير العملات يعتمد على آليات السوق والعرض والطلب وميزان المدفوعات والناتج المحلي والأوضاع السياسة والاقتصادية وغيرها.

تجارب دولية

إذا كانت القاعدة العامة، هي أن معظم الدول تستهدف رفع قيمة عملتها، إلا أنه على العكس من ذلك، فإن هناك دولاً سعت للنقيض، وحاولت بكل أدواتها الحفاظ على قيمة عملتها منخفضة، وأبرز هذه الدول الصين، التي رأت أن الأداة الأكثر نجاحًا لضمان استمرار النمو هو خفض سعر العملة، من أجل ضمان استمرار زيادة الطلب العالمي على الصادرات الصينية.

فمع وصول الاقتصاد إلى درجة من التشبع الاقتصادي والاستغلال شبه الأمثل للموارد، فإن الوسيلة المثلى لضمان استمرار النمو قد تكون هي خفض سعر العملة بشكل محسوب، يضمن استمرار زيادة الطلب العالمي على الصادرات الصينية، ومن ثم يعمل على مساعدة الاقتصاد على النمو بشكل عام.

وعلى الرغم أن السعر المنخفض لليوان الصيني جعل الواردات تزيد خلال 2017م على سبيل المثال بنسبة %15، وهي نسبة كبيرة، إلا أن بكين تمكنت من زيادة صادراتها بنسبة %8 خلال العام نفسه، لتصل إلى 2.27 تريليون دولار.

وفي عام 2021م بلغت الصادرات السلعية الصينية 3.36 تريليون دولار في عام 2021م، كما بلغت وارداتها السلعية في العام نفسه 2.68 تريليون دولار، وهو ما يعني أن الميزان التجاري للصين أسفر عن فائض يُقدر بـ 676 مليار دولار.

وفي اليابان، فإن انخفاض قيمة الين يأتي لصالح الشركات اليابانية الكبرى، التي تمتلك استثمارات واسعة حول العالم، والتي من مصلحتها انخفاض قيمة الين، لأن ذلك سيُعظم من أرباحها المحوّلة لها من الخارج، فضلاً بالطبع عن أنه يجعل لدى صادراتها ميزة تنافسية.

ولكن من سلبيات خفض الين الياباني، أنه يرفع من تكلفة واردات الطاقة والغذاء والمواد الخام، التي تحتاجها اليابان، الأمر الذي يلحق الضرر بالمستهلكين ويرفع من تكاليف المعيشة.

وعلى الرغم من امتلاك طوكيو احتياطيًا نقديًا ضخمًا من العملات هو الأكبر عالميًا بعد الصين، والتي تمتلك 3.22 تريليون دولار، تليها طوكيو بـ 1.38 تريليون دولار، وهو ما يجعلها قادرة على رفع قيمة عملتها، إلا أن اليابان، لا تكترث بذلك، ولكن تستهدف على رأس أولوياتها سياسات نقدية تركز على تخفيض معدل التضخم وزيادة الصادرات في ظل افتقاد صادراتها لبعض المزايا التنافسية، التي كانت تمتلكها في السابق.

حروب العملات

مع تراجع الصراع بشكله التقليدي، بدأت الكثير من الدول السعي لتحقيق أهدافها من خلال أدوات أخرى، ذات الارتباط بالأبعاد الاقتصادية، وأخر الصراعات التي ظهرت مؤخرًا بشأن استخدام العملات، قيام روسيا، بالإعلان عن استخدام عملتها الوطنية “الروبل” في المبادلات التجارية مع اشتعال الأزمة مع أوكرانيا، وكذلك إعلان البرازيل عن اتفاقها مع الصين للتخلي عن الدولار واستخدام عملتيهما المحليتين في تعاملاتهما التجارية الثنائية، وهو ما يدخل ضمن مساعي بعض الدول لكسر هيمنة واحتكار الدولار الأمريكي على حركة التجارة الدولية.

ومن الصدامات البارزة، خلال العقد الماضي بسبب العملة، ما حدث في 2019م حيث انخفضت قيمة العملة الصينية إلى أدنى مستوياتها في أكثر من عشر سنوات، وهو الأمر الذي جعل الولايات المتحدة ـ وأوروبا أيضًا ـ تشتكي من ذلك، معتبرة أن تخفيض بكين لسعر عملتها الوطنية يمنحها ميزة نسبية في التجارة الدولية، وفي علاقاتها الثنائية التجارية مع الدول الأخرى، التي تترك تحديد سعر الصرف لآليات العرض والطلب.

إلا أن بنك الصين الشعبي، برّر خطوته بأنها جاءت لمواجهة التدابير الحمائية التجارية أحادية الجانب، التي تم اتخاذها، وذلك على خلفية إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض تعريفات بنسبة %10 على ما قيمته 300 مليار دولار أمريكي من البضائع الصينية؛ حيث أدى قرار أمريكا بفرض رسوم على هذه المنتجات الصينية إلى ارتفاع قيمتها في السوق الأمريكية، وبالتالي تقليل الطلب عليها.

فجاء الرد الصيني بتخفيض اليوان لزيادة تنافسية الصادرات الصينية، وخفض قيمة شرائها بالعملات الأجنبية، كمحاولة لتعويض أثر رفع التعريفات على الصادرات الصينية إلى أمريكا.

 

عوامل ومحددات

ومن أهم التحديات، التي تواجه الدول، فيما يتعلق بالسياسات المالية والنقدية، والسياسة الاقتصادية، بشكل عام، تحديد سعر الصرف، وهناك عوامل مختلفة، تأخذها الدولة في حسبانها، عند قرارها بالتحكم في سعر الصرف ورفع قيمة عملتها أو تخفيض قيمة عملتها، ومنها معدلات التضخم ومعدلات الدين العام وقيمة وطبيعة الصادرات والواردات.

ومن أبرز هذه العوامل المؤثرة على القرار برفع أو خفض عملاتها الوطنية أن تسعى سائر الدول النامية والمتقدمة إلى الحفاظ على احتياطي نقدي من العملات يساعدها بالحفاظ على قيمة عملتها الوطنية، وفي الوقت ذاته، فإن من شأن عدم اكتناز العملة الأجنبية، وبيعها بشكل سلس، يدعم سعر الصرف الوطني، وأن يساعد تخفيض سعر الصرف على تشجيع وزيادة الصادرات، بينما سعر الصرف المرتفع يزيد من القدرة الشرائية للعملة الوطنية.

ومع العجز في الميزان التجاري وزيادة الواردات عن الصادرات، فإن الدول من المفترض أن تعمل على الحفاظ على قيمة عملتها وعدم السماح بانخفاضها، إذ أن لذلك آثارًا سلبية، على رأسها ارتفاع معدل التضخم.

زيادة أسعار السلع

إذ كانت الدول تلجأ إلى قرار تخفيض قيمة عملاتها الوطنية لإعادة التوازن إلى موازينها التجارية وتخفيف العجز، فإنه يجب أن تأخذ في الحسبان أن تخفيض قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة أسعار السلع القادمة من الخارج، وسيؤدي إلى دعم السلع والمنتجات الوطنية، كما أن أسعار السلع المنتجة بالداخل ستكون أرخص مما سيعزز القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية ويرفع من حجم الصادرات، وهو ما يؤدي في الغالب لتراجع الواردات وتضاعف الصادرات، وحدوث توازن في الميزان التجاري.

كما أن قرار تخفيض قيمة العملة الوطنية يمكن من خلاله تشجيع المنتجات الوطنية وتحفيز الإنتاج الوطني وخلق المزيد من الوظائف والحد من البطالة، فضلاً عن العديد من الآثار الإيجابية، في حال قدرة الدولة على إنتاج سلع بديلة للمنتجات الأجنبية بأسعار منافسة وجودة مقبولة، وثاني هذه العوامل، هو مدى تجاوب الطلب على الصادرات والواردات مع تغير الأسعار الناتج عن تخفيض قيمة العملة.

 

السوق الموازية

وعلى الرغم من أن تخفيض قيمة العملة الوطنية قد ينجح على القضاء على السوق الموازية للنقد الأجنبي، إلا أن ذلك قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم وارتفاع نسب الفقر والبطالة.

فلارتفاع وانخفاض قيمة العملة تأثيره على المديونيات، ففي حال الارتفاع، قد يكون ذلك مفيدًا للدولة إذا كان عليها مديونيات لدى الدول الأخرى، لأن هذه المديونيات ستنخفض قيمتها مقارنة بالدولار، أما في حال الانخفاض، فإن معنى ذلك أن الدولة سيكون عليها تدبير العملة الأجنبية وسداد ديونها بتكلفة أعلى.

وأخيرًا فإن خفض العملة، يسهم في زيادة نشاط السياحة، وزيادة عدد السائحين والقوة الشرائية.

وقد يحقق العديد من الإيجابيات، مثل دعم المصدرين وزيادة الصادرات والحد من الواردات، وزيادة القدرة التنافسية للعملة الوطنية، وسد عجز ميزان المدفوعات، فإنه في حال رفع قيمة العملة تصبح الصادرات أقل ربحية، ويزيد العرض فتنخفض الأسعار في السوق المحلى، وذلك على الرغم من أن تخفيض قيمة العملة يؤدي إلى تحفيز الإنتاج ونمو الاقتصاد الوطني، إلا أنه يجب الانتباه إلى تأثيراته العكسية، وعلى رأسها حدوث انكماش اقتصادي بسبـــب التضخــم وارتفاع أسعار المواد الأوليــة ومصادر الطاقة.