الاتحاد الأوروبي يُقر قانون “ميكا” لتنظيم صناعة تشفير العملات، وهيئة الأوراق المالية الأمريكية تعتزم إدراج بورصات العملات المُشفرة
الرئيس الأمريكي يدعو الوكالات الفيدرالية إلى فحص مخاطر وفوائد العملات المُشفرة وإصدار تقارير رسمية عن نتائجها
أنا لا أملك أيًا منها..أُحب الاستثمار في الأشياء التي لها مخرجات قيّمة”، هكذا قال الملياردير الأمريكي بيل جتيس عند سؤاله في موقع “ريديت” عن رأيه في العملات المُشفرة، وهو الرأي الذي يأتي في وقت تشهد فيه هذه العملات المشفرة حالة من الجدل والنقاش بشأن ترويضها وإعادة صياغتها من قبل حكومات العديد من الدول، وذلك للحد من مخاطرها وأبرزها عدم خضوعها للرقابة من قبل المؤسسات المالية الرسمية، ومن ثم إمكانية استخدامها في تمويل أنشطة غير مشروعة كالإرهاب والجرائم المرتبطة بالإنترنت، والتهرّب الضريبي وتبييض الأموال، وغير ذلك.
وكانت العملات المُشفرة، قد ظهرت للمرة الأولى عام 2008، وبالرغم من عدم وجود بيانات دقيقة عن حجم سوقها وأنشطتها المختلفة، لكن بعض التقديرات تشير إلى أنه يتراوح بين 2-3 تريليونات دولار، ويتم تداول أكثر من ألفي عملة حول العالم، وأكثر من 300 مليون مُتداول.
قانون “ميكا”
وأصبح ما يطلق عليه ترويض العملات المُشفرة مسألة تستحوذ على اهتمامٍ كبير في دول الاتحاد الأوروبي، حيث اتخذت العديد من الإجراءات للحد من التأثيرات الضارة لها، إذ وافق البرلمان الأوروبي (بأغلبية 517 صوتًا مقابل 38 صوتًا) في أبريل الماضي، على أول قانون من شأنه تنظيم صناعة العملات المُشفرة أو ما يطلق عليه قانون “ميكا” أو “الأسواق في التشفير MICA”، والمتوقع أن يدخل حيز التنفيذ في 2024م، كما اعتمد لائحة تحويل الأموال “TFR”، التي تسعى إلى تقليل إخفاء الهوية، بما يلزم الشركات المالية بفحص وتسجيل معلومات المرسل والمتلقي، وذلك في إطار دعم الجهود المبذولة لمكافحة غسيل الأموال.
ويعد قانون “ميكا”، الذي تمت مناقشته قرابة 3 سنوات، أول إطار تنظيمي أكثر شمولاً للأصول الرقمية حتى الآن، وهو ما يجعل الدول الأوروبية تتقدم خطوة على الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، حيث يمنح السلطات المالية الأوروبية الحق في فرض عدد من المتطلبات المتعلقة بالشفافية والإفصاح عن منصات التشفير ومصدّري العملات، في محاولة لحماية المستثمرين والمتعاملين، فضلاً عن صلاحيات حظر وتقييد هذه المنصات، إذا لم تلتزم بهذه الضوابط، بالإضافة إلى إلزامها بالكشف عن استهلاك الطاقة والتأثيرات المتوقعة على البيئة جراء استخدام هذه الأصول الرقمية.
ثورة الأصول المشفرة
وقد حذر عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي فرانسوا فيليروي دي جالو من صعوبة تحديد مكان إنشاء منصات إدارة العملات المُشفرة، لكنه شدّد على حرص دول الاتحاد الأوروبي على تجنّب تبنّي أنظمة متباينة أو متناقضة، أو إيلاء أهمية لتنظيمها بعد فوات الأوان، مشيرًا إلى أن هناك دورًا كبيرًا للبنوك المركزية في تحديث أنظمة المدفوعات لديها، بما في ذلك البنى التحتية التي تستخدمها المؤسسات المالية.
ويؤكد خبراء على أن القانون سيساهم في انتعاش سوق العملات المُشفرة في الدول الأوروبية، واصفين إياه بـ “الثورة” في سوق الأصول المُشفرة، خاصة مع تباين الأنظمة واللوائح في كل بلد أوروبي في الوقت الحالي، حيث تضطر الشركات التي تقوم بتقديم عروض للعملات المُشفرة إلى الامتثال للوائح كل بلد على حدة، فضلاً عن أنه يوفر الحماية للمستهلكين وهو ما ينعكس على ارتفاع الطلب في هذا السوق.
وتسعى الدول الأوروبية إلى الحد من التأثيرات الخطيرة للعملات المُشفرة، من خلال المراقبة الصارمة لهذا السوق، حيث يشير خبراء إلى أن هذه العملات وخاصة البتكوين أصبحت ملاذًا آمنًا للجرائم الإلكترونية، بالنظر إلى صعوبة تتبعها، وأن تجارتها تتم بلا رقيب أو حسيب، والإقبال المتزايد عليها يجعل فوائدها تتجاوز تجارة المخدرات.
نهج شامل
وكذلك اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية خطوات عدة لتنظيم سوق العملات المُشفرة، ففي مارس 2022 دعا الرئيس الأمريكي جو بايدن الوكالات الفيدرالية إلى فحص مخاطر وفوائد العملات المُشفرة وإصدار تقارير رسمية عن نتائجها، خاصة المتعلقة بتحقيق الاستقرار المالي وحماية المستهلكين ومكافحة التمويلات غير المشروعة، وهي الخطوة التي اعتبرت بمثابة أول نهج شامل تتبناه الحكومة الأمريكية تجاه صناعة تشفير العملات.
وأعلنت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية في أبريل الماضي أنها تعمل على تعزيز خططها لإدراج بورصات العملات المُشفرة، وذلك بعد فترة قصيرة من انهيار عملاق تداول العملات المُشفرة (FTX)، بعد أن فقدت 662 مليون دولار من العملات في يوم واحد، وتحذير تقرير أصدرته وزارة الخزانة الأمريكية من أن عمليات الاحتيال المرتبطة بالعملات المُشفرة تسببت في خسائر تصل إلى 1.6 مليار دولار عام 2021 فقط، معتبرةً أن غياب الرقابة والتنظيم لهذا السوق جعله بمثابة “حقل ألغام من الجرائم المالية”، لتضع هذه التطورات الضغوط على الولايات المتحدة الأمريكية لاتخاذ إجراءات أكثر سرعة في تنظيم هذا السوق.
وفي ذات السياق، تعتزم الحكومة البريطانية إصدار قانون لضبط التعامل بالعملات المُشفرة، وسط مساعٍ بأن تكون مركزًا عالميًا لهذا السوق، من خلال تحقيق التوازن والتكافؤ بين أنظمة ولوائح الخدمات المالية التقليدية والناشئة، كما أنها تدرس إصدار عملة وطنية مشفرة خاصة بها.
دفع عابر للحدود
وفي تحولٍ مفاجئ، أعلن البنك المركزي الروسي، (تعد روسيا ثالث أكبر الدول في تشفير العملات عالميًا) عن قبول وسائل الدفع العابرة للحدود بالعملات المُشفرة، واعتبرها “أمرًا لا مفر منه”، في ظل الظروف الجيوسياسية الحالية، علاوةً على سعيه ـ بالتعاون مع وزارة الماليةـ لتقنين استخدام العملات المُشفرة، بعد تأكيده سابقًا وفي أكثر من مناسبة عن عزمه فرض حظر شامل على استخدام وتعدين هذه العملات محليًا.
وفرضت الهند مؤخرًا أحكام غسل الأموال على قطاع العملات المُشفرة، والتي من شأنها تشديد الرقابة على الأصول الرقمية والخدمات المالية ذات الصلة، وهي خطوة تضاف إلى ما اتخذته العام الماضي من تطبيق قواعد ضريبية أكثر صرامة على قطاع التشفير، بما في ذلك تطبيق ضريبة على التداول.
تأهيل المستثمرين
ويؤكد متخصصون على أن قيام بعض الدول من خلال بنوكها المركزية لإصدار عملاتها المُشفرة الخاصة ليس الخيار الأفضل لنجاح الجهود المبذولة لتنظيم سوق العملات المُشفرة، خاصة أن هذه السوق تعتمد على الحرية وآليات العرض والطلب، وهذه قواعد اللعبة التي ربما تفشل الحكومات في تغييرها، مشددين على ضرورة وضع آليات لمراقبة نشاط هذا السوق وحماية حقوق المتعاملين، وفي ذات الوقت، وضع الأطر المنظمة للعمل، مع إعطاء أهمية كبيرة لتأهيل صغار المستثمرين الراغبين في الانضمام إلى سوق العملات المُشفرة.
ودعا خبير العملات التشفيرية الفرنسي ستيفان أبي شاكر البنوك المركزية إلى التخلّي عن فكرة إصدار عملات تشفيرية خاصة، مشيرًا إلى أن عملة “البتكوين” التي تعد أكثر شهرة في العالم الآن ظهرت بعد أسابيع فقط من إفلاس بنك “ليمان براذرز” الأمريكي عام 2008، بما يعكس طبيعة هذه السوق التي تختلف عن الأنظمة والخدمات المالية التقليدية.
تعديلات تشريعية
وأشارت دراسة لصندوق النقد الدولي إلى أن عالم العملات المُشفرة أصبح يحاكي الأنظمة المالية التقليدية، وأن بعض الدول أرادت اللحاق بالركب، وحققت إنجازات كبيرة لتنظيم هذا العالم من خلال إصدار تعديلات تشريعية وقوانين لمراقبة الأصول المُشفرة ومقدمي الخدمات، مثل: اليابان وسويسرا، وهناك دول أُخرى مازالت في مرحلة الصياغة، منها الولايات المتحدة الأمريكية، مشيرةً إلى أن الموقف العالمي الذي يتراوح بين الترحيب تارة والتضييق تارة أخرى لا يكفل تكافؤ الفرص، وبالتالي نشهد هجرة المشاركين في سوق العملات المُشفرة إلى الدول الأقل تشددًا، لكن ما زال بإمكانهم التواصل مع أي شخص في العالم يستطيع الاتصال بالإنترنت.
أوضحت الدراسة أنه في السنوات الأولى للعملات المُشفرة، اهتمت دول العالم بالحفاظ على النزاهة المالية، للتأكد من عدم استخدام الأصول المُشفرة في المعاملات غير المشروعة، وبعدها برزت جهود لوضع نظام عالمي لجميع مقدمي خدمات الأصول الافتراضية، لكن إعلان شركة “ميتا” المالكة لموقع “فيسبوك” في 2019 عن إطلاق عملة “ليبرا”، والترويج لها بوصفها أكثر العملات الرقمية استقرارًا في العالم، أعطى دفعة كبيرة لهذه الجهود.
نظام عالمي شامل
وحتى تنجح الجهود الرامية إلى تلافي مخاطر العملات المُشفرة، ينبغي على الدول إصدار ضوابط ولوائح صارمة كتلك المعتمدة في القطاع المالي التقليدي، وتتضمن منح تراخيص لمقدمي خدمات الأصول المُشفرة والجهات العاملة في هذا المجال واعتمادهم، فضلاً عن ضرورة وضع نظام عالمي قوي وشامل، يضمن التنسيق المتواصل بين كافة الدول، خاصة مع طبيعة العملات المُشفرة العابرة للحدود، وهو ذاته ما دعا إليه رئيس الرابطة الروسية للعملات المُشفرة، أرسيني تشيلسن بضرورة توحيد كافة الإجراءات والضوابط في مختلف دول العالم، لمواجهة مشكلة تذبذب قيمة هذه العملات بين وقتٍ وآخر، مؤكدًا بأن ذلك هو التحدي الحقيقي الذي يواجه مسألة تقنين سوق العملات المُشفرة في العالم، مشيرًا إلى أن الدول مطالبة لتهيئة البيئة التشريعية والتنظيمية وكذلك التكنولوجية لاستيعاب هذا النوع المتطور من المعاملات المالية، وإحكام الرقابة للحيلولة دون تعرض صغار المستثمرين لعمليات النصب والاحتيال وضياع رؤوس الأموال.