اقتصاديات الفضاء

استثمار الفضاء.. ساحة تنافس عالمي

شركة “ASpace” الصينية، تعلن عن استثمار 266 مليون دولار لإنشاء أول مصنع لتصنيع الأقمار الاصطناعية المتقدِّمة في المملكة

كل دولار يتم استثماره في قطاع الفضاء يتراوح العائد عليه بين 5 و6 دولار وقد يصل إلى 10 دولارات

 

الاستثمار في الفضاء ينطلق بسرعة الصواريخ الحاملة للأقمار الاصطناعية نفسها)، إذ أصبح خلال السنوات الأخيرة غزو الفضاء والاستثمار في المهمات المرتبطة به، صناعة إستراتيجية تثير شهية الشركات بشكل لافت للنظر؛ فبعد أن كانت الحكومات هي المسيطرة على اقتصاد الفضاء منذ منتصف القرن الماضي، تحوَّل الفضاء إلى مجال رحب وساحة للتنافس بين المستثمرين من مختلف دول العالم.

وتنطلق المركبات الفضائية بشتى أنواعها لحل ألغاز هذا العالَم الخفي، حاملة المعدَّات والأجهزة المتطورة والأجسام القادرة على القيام بمهامٍ عديدة، مثل المراقبة والاستكشاف والاتصالات والإنترنت، فضلاً – وهذا هو الأهم – اكتشاف المعادن النادرة التي تقدَّر قيمتها بمليارات الدولارات، ومحاولة نقلها إلى الأرض، وهذا بدوره يفسِّر سبب إصرار شركة “سبيس إكس” الأمريكية على الاستمرار في محاولاتها لإرسال صاروخ “ستار شيب” المخصص لنقل البضائع والأفراد إلى القمر والمريخ.

صناعة عالمية سريعة التقدُّم

ويمكن القول إنَّ الفضاء اكتسب أهمية متزايدة وأصبح صناعة ديناميكية سريعة التقدُّم، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، مع توقعات بأن تحقق معدَّل نمو بنسبة 11% لتصل إلى 1.4تريليون دولار بحلول عام2030م، و3 تريليون دولار بحلول عام2050م، مقارنةً مع حوالي 470 مليار دولار في عام2022م لتسجل أسرع معدَّل نمو في السنوات العشر الأخيرة.

وقد كان عام2022م عامًا استثنائيًا في قطاع الفضاء، حيث تم إطلاق 186 صاروخًا ناجحًا بنسبة نمو تقدَّر بنحو 22% مقارنةً مع عام 2021م، وهو ما يشير إلى تحوُّل سريع في هذا القطاع، يلعب فيه التقدُّم التكنولوجي وزيادة استثمارات القطاع الخاص والطلب المتزايد على البيانات والمنتجات والخدمات الفضائية، الدور الأكبر خاصةً بعد تضاؤل التحديات التي كانت تواجه تصنيع وإطلاق وتشغيل الأقمار الاصطناعية وغيرها من الأصول الفضائية، حيث تم “تصغير حجم الأقمار الاصطناعية”، وأصبحت تكلفة إنتاجها وتشغيلها أقل من أي وقت مضى، وبفضل الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام، أصبحت تكاليف الإطلاق أقل بكثير اليوم، وهو ما أسهم بدوره في دخول شركات عالمية جديدة، فعلى سبيل المثال: تصل تكلفة إطلاق قمر اصطناعي 60 مليون دولار حاليًا مقارنةً بـ 200 مليون دولار قبل سنوات.

وأعلنت “تاليس ألينيا سبيس”، وهي شركة إيطالية فرنسية، مؤخرًا عن استثمار أكثر من 110 مليون دولار لإنشاء مصنع رقمي بالكامل لإنتاج الأقمار الاصطناعية بتقنيات متقدِّمة وبأحجام مختلفة، في منطقة تكنوبولو تيبورتينو بروما.

وتقود بريطانيا القارة الأوروبية في مجال الاستثمار في الفضاء، حيث أشار تقرير حديث إلى أنها الوجهة الأكثر جاذبية في هذا المجال، بعد الولايات المتحدة، حيث اتجهت أكبر 9 شركات بريطانية إلى الاستثمار في هذا القطاع منذ عام 2015م، حيث تقدَّر قيمة الاستثمارات المباشرة في هذا القطاع بحوالي 17.5 مليار جنيه إسترليني بنسبة 17% من الاستثمارات العالمية، وتتركز أوجه نشاطها بشكلٍ خاص في المراقبة وتصنيع الأقمار الاصطناعية وتطوير تكنولوجيات الاتصال والمعلومات، كما تصل قيمة إسهاماته والصناعات المغذية له في الاقتصاد البريطاني بنحو 370 مليار جنيه إسترليني، وكان عام 2021م وحده، شهد دخول مستثمرين جدد بنسبة نمو بلغت 63%، وهو ما يعكس الأهمية المتزايدة للاستثمار في تقنيات الفضاء.

“ASpace” الصينية، تستثمر مليار ريال لإنشاء أول مصنع للأقمار الاصطناعية في المملكة

مجالات استثمارية مساندة

وفي هذا السياق، يقول المدير التنفيذي لشركة “نيو إسبيس كابيتال” البريطانية، بوجدان جوجولان: إنه في عالم الفضاء العملاء لا يزالون على الأرض، بمعنى أن هذه الاستثمارات الهائلة التي يتم ضخها في هذا القطاع، تسهم في تطور أوجه النشاط الداعمة والمرتبطة به، مشيرًا إلى أنه بفضل البنية التحتية المرنة والفعالة، يمكن للشركات استخدام المنتجات والخدمات الفضائية في التطبيقات التكنولوجية مثل البرمجيات والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية، ونظام تحديد المواقع للمركبات ذاتية القيادة، وتطبيقات الهواتف الذكية وغيرها.

وأشار الخبير البريطاني، إلى أن استثمارات الفضاء لا تتعلق بالإنتاجية والكفاءة فقط، لكنها تُعزِّز الاستدامة، كونها ذات بصمة كربونية أقل من الاستثمارات على الأرض، حيث إنَّ هناك بالفعل أكثر من 4.5 جيجا طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون يتم إزالتها من الغلاف الجوي كل عام، وهو ما يحقق بدوره عوائد هائلة للمستثمرين.

ويمكن التأكيد على أن اقتصاد الفضاء يدعم وبقوة المجالات الاستثمارية المساندة أو المرتبطة به، ويسهم في تطوير الصناعات التكنولوجية المتقدِّمة، فضلاً عن تحسين جودة الحياة وتوفير خدمات جديدة، أبرزها مراقبة تغير المناخ والاتصالات خاصة في المناطق النائية أو التي تحتاج إلى مليارات الدولارات لتطوير البنية التحتية، علاوةً على تعزيز الابتكار العلمي.

ويرجع الفضل لشركة “سبيس إكس” الأمريكية في إحداث تطور مذهل في سوق الفضاء، إذ ساعدت تقنياتها المتطورة في خفض تكلفة إطلاق الأقمار والمركبات الفضائية بنسبة 90% منذ ظهور المكوك، وزاد عدد الأجسام التي أطلقت من الأرض بمقدار 20 مرَّة، حيث يزدحم الفضاء بأكثر من 11 ألف جسم، منذ بدء الغزو الخارجي للفضاء، إذ تُهيمن الولايات المتحدة على نسبة 50% منها بميزانية تصل إلى 26 مليار دولار في 2023م، ثم روسيا بنسبة 33%، والصين 7%، وبريطانيا 6.5%، وأخيراً اليابان بنسبة حوالي 3.5%.

وتُعدُّ خدمات “ستار لينك” المثال الأبرز على استخدام الأقمار الاصطناعية في توفير الإنترنت في المناطق النائية، وهو المشروع الطموح للملياردير الأمريكي “إيلون ماسك”، حيث تم إطلاق أكثر من 3 آلاف قمر اصطناعي منخفض في الفضاء منذ عام 2018م، وتعمل الشركة حالياً في حوالي 40 دولة خاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وتخدم أكثر من 700 ألف مشترك.

المملكة مركز إقليمي

وثَمَّة حرص كبير من شركات تكنولوجيا الفضاء العالمية على الاستثمار وتكوين شراكات مع نظيراتها في المملكة؛ إذ تعزز المملكة من خططها الاستراتيجية لتمكين ودعم قطاع الفضاء، من أجل تنويع الاقتصاد، وقد يكون عام 2024م عام الانطلاقة الحقيقية لهذا القطاع المحوري، والذي يلقى دعمًا واهتمامًا كبيربين في المملكة، وذلك بتخطيط شركات عدة، منها “أستروسات” و”بلاك شارك” النمساوية، وسي 3″ الأمريكية، لدخول سوق المملكة، وأن تتخذ من المملكة مركزًا رئيسًا لمشروعاتها لتطوير علوم وتكنولوجيا الفضاء في الشرق الأوسط.

كما أعلنت شركة “ASpace” الصينية المتخصصة في الصناعات الفضائية، عن استثمار 266 مليون دولار، لإنشاء أول مصنع متخصِّص لتصنيع الأقمار الاصطناعية المتقدِّمة في المملكة، وهي الخطوة التي ستفتح الباب أمام عديد من الشركات للاستثمار في المملكة، والتي تشهد نهضة استثنائية على كافة الأصعدة، وهو ما يعزِّز من تنافسية المملكة عالميًا.

ويذكر خبير علوم الفضاء “أرون سورنسون”، أن المملكة صنعت التاريخ بعد عودة أول رائدي فضاء سعوديين إلى الأرض، وهما “ريانة برناوي” و”علي القرني” في سابقة تاريخية، تسلِّط الضوء على تطلعاتها وخططها لتصبح لاعبًا إقليميًا في مجال استكشاف الفضاء، مضيفًا: (على الرغم من أنها في مرحلة مبكرة من تطوير قطاع الفضاء، إلا أنها حقَّقت إنجازات بارزة، من خلال مشاركتها الطويلة في مجال تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية، وإنشاء وكالة الفضاء السعودية، وإقامة شراكات دولية).

بوجدان جوجولان

مستقبل صناعة الفضاء

وتزداد أهمية الفضاء يومًا بعد يوم، بالنظر إلى ارتفاع العوائد الاستثمارية في المجالات والصناعات الداعمة والمرتبطة به مستفيدة من الخدمات المبتكرة التي يقدِّمها، إذ أشار المدير العام لوكالة الفضاء الأوروبية، جوزيف أشباخر، إلى أن كل دولار يتم استثماره في قطاع الفضاء يتراوح العائد عليه بين 5-6 دولار وقد يصل إلى 10 دولارات، وهو ما يعكس جدوى الاستثمار في هذا القطاع المتنامي، والتي تفوقت على الاستثمارات بالقطاعات الأخرى.

وإذا كان الفضاء قد ظل لسنوات طويلة حكرًا على الولايات المتحدة وروسيا، فإنه أصبح اليوم الملاذ الآمن لعدد هائل من الشركات الخاصة التي تفوقت على نظيراتها الحكومية في العالم، وبحسب وكالة الفضاء الأوروبية تولدت أكثر من 224 مليار دولار من المنتجات والخدمات التي تقدِّمها شركات الفضاء.

ويؤشر المستقبل إلى أن السنوات المقبلة ستشهد سباقًا بين الشركات العالمية لبدء عمليات تعدين المعادن النادرة، وأبرزها “الهيليوم 3” الذي تقدَّر وكالة “ناسا” مخزونه على القمر بحوالي مليون طن، وهو عنصر مشع ونادر جدًا على الأرض، ويمكن استخدامه في المفاعلات النووية دون أن يتسبب في مخلفات، لذا تقوم بإجراء أبحاث لاستغلال هذه المعادن وخفض كلفة نقلها إلى الأرض، التي تصل حاليًا إلى حوالي 60 ألف دولار للكيلو جرام الواحد عبر مركبات الفضاء.

ويمكن التأكيد على أن الاستثمار في مجال الفضاء مرشح للزيادة السريعة والمطردة خلال السنوات القليلة المقبلة، خاصة أنه يفتح ذراعيه للبشرية للوصول إلى اقتصاد معرفي ومستدام، في عالم يشهد تنافسًا محمومًا لغـزوه واستكشافـــه وفك طلاسمه.