أسواق تجارة

هجرة جماعية إلى تجارة الأون لاين

أكثر من 22 مليون متسوق بالمملكة أنفقوا 39 مليار ريال عبر التجارة الإلكترونية عام 2022م

التجارة الإلكترونية مكَّنت الشركات الصغيرة والمتوسطة من الوصول إلى سوق أوسع

 

يشهد العالم اليوم تطورًا تكنولوجيًا هائلاً وتحولًا كبيرًا إلى العالم الرقمي، ما ولَّد هجرةً جماعية في أساليب التجارة والتسويق، وأصبح يُشكّل البيع على الإنترنت فرصة سانحة للمنتجين بتقديم منتجاتهم للعالم أجمع، وقد نمت التجارة الإلكترونية بشكل متسارع خلال السنوات الثلاث الماضية، فانتقل قرابة 209 ملايين مستهلك للتسوق عبر الإنترنت في ذروة الوباء، وفي الولايات المتحدة الأمريكية ارتفع حجم الإنفاق على التجارة الإلكترونية عام 2023م بما نسبته 7.5%، وبلغ حجم الإنفاق مستوى قياسيًا عند 9.8 مليار دولار، وفي المملكة أنفق أكثر من 22 مليون فرد نحو 39 مليار ريال عبر التجارة الإلكترونية عام 2022م.

ويعود بداية تاريخ التجارة عبر الإنترنت إلى أول عملية بيع تم تنفيذها عبر الإنترنت وذلك عام 1994م، عندما باع رجلاً قرصًا مضغوطًا لصديقه عبر موقعه الإلكتروني (Net Market)، وهي منصة أمريكية للبيع بالتجزئة، ومنذ ذلك الحين بدأت التجارة الإلكترونية تشهد تطورًا كبيرًا ساعد العملاء على تسهيل البحث عن المنتجات وشرائها من تجار التجزئة، والأسواق عبر الإنترنت، وأخذت البلدان في تهيئة بنيتها التحتية الرقمية استعدادًا لعصر التجارة الإلكترونية.

أكبـر الأسواق العالميـة

وكانت المملكة من أوائل الدول في منطقة الشرق الأوسط التي تنبَّهت إلى التجارة الإلكترونية وذلك منذ عـام 2001م إلـى أن أصبحـت أحـد أكبـر الأسواق العالميـة عـام 2019م وتوسـعت بشـكل كبيـر إلـى أن وصـل حجـم التعاملات فـي التجـارة الإلكترونية نحـو 7.5 مليـار دولار عام 2020م.

ويشكِّل التحوُّل إلى الاقتصاد الرقمي هدفًا أساسيًا من أهداف رؤية 2030م من خلال زيادة إسهام الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي، وتبني التقنيات الحديثة المتعلقة بالثورة الصناعية الرابعة، وخلال السنوات القليلة الماضية، لفت تطور التجارة الإلكترونية في المملكة النظر بشكل كبير، بعد أن باتت ضمن أبرز 10 دول تطورًا في مجال التجارة الإلكترونية، إلى جانب تقدُّمها في الترتيب العالمي للتجارة الإلكترونية لتحل في المركز الـ 49.

انخفاض التكاليف

وثَّمة مؤشرات على أن انخفاض تكاليف العمليات التجارية عبر التجارة الإلكترونية فيما بين قطاعات الأعمال يُمكن أن يؤدي إلى زيادة دائمة في مستوى ناتج اقتصادات الدول المتقدِّمة بمتوسط 5% على مدى السنوات العشر المقبلة، الأمر الذي يعني زيادة في نمو الناتج الإجمالي بنسبة 0.25% في العام، وعلى سبيل المثال أشارت تقارير وزارة التجارة الأمريكية إلى أن التجارة الإلكترونية وقطاع تقنية المعلومات قد أسهما بنسبة 30% من نمو الناتج المحلى الإجمالي للولايات المتحدة خلال الفترة من عام 1995م إلى عام 1998م.

عدا ذلك تحقِّق تجارة الأون لاين، عديدًا من المميزات للاقتصاد الوطني للدولة في مجال التوظيف، فهي تحقِّق فرصًا جديدة للتوظيف، وتتيح إقامة مشروعات تجارية صغيرة ومتوسطة للأفراد وربطها بالأسواق العالمية بأقل التكاليف الاستثمارية، فضلاً عن توفيرها فرصًا وظيفية في عديد من المجالات المختلفة ذات الصلة بتطبيقات التجارة الإلكترونية، مثل المتخصصين في إنشاء المواقع التجارية الإلكترونية، والعاملين والإداريين والفنيين في المتاجر الإلكترونية.

أسباب النمو

وقد شهدت مؤخرًا سوق التجارة الإلكترونية في المملكة نموًا ملحوظًا مدفوعًا بزيادة المبيعات عبر الإنترنت وزيادة كميات وأنواع المنتجات والخدمات المتاحة للمستهلكين، ويؤكد الخبير الاقتصادي وأحد رواد البيع عبر الأون لاين، عبدالله الخليفة، أنه خلال السنوات العشر الأخيرة، تنامت حركة البيع عبر الأنترنت، بشكل كبير، لافتًا إلى أنه الآن بات البيع الإلكتروني أكثر انتشارًا وساعد أصحاب الأعمال كثيرًا، بعكس عام 2011م عندما كانت المنافسة صعبة وقاسية، وواجهت المتاجر الإلكترونية صعوبات كبيرة من ناحية الدعم اللوجيستي وسلاسل الإمداد، فضلاً عن تخوف المستهلك وعدم الثقة بالشراء أون لاين، وأشار إلى أن التوسع اليوم أسهم في إضافة مزيد من التحديات، بقوله: (صحيح أن هناك قبولًا أكبر ولكن باتت التنافسية أشد، حتى الشركات الكبرى باتت تركِّز على البيع أون لاين، من المصدر نفسه).

وبسبب اجتماع عديد من الأسباب ازدهت التجارة الإلكترونية في المملكة، كزيادة انتشار الإنترنت، فمع وصول أكثر من 98% من السكان إلى الإنترنت، باتت المملكة اليوم من أعلى البلدان انتشارًا للإنترنت في المنطقة والشرق الأوسط، ما دفع بنمو سوق التجارة الإلكترونية بشكل أكبر، فضلاً عن أن غالبية السكان من الشباب؛ إذ يشكلون وحدهم 60% من السكان ما أسهم أيضًا في زيادة الطلب على التسوق عبر الإنترنت والخدمات الرقمية المتنوعة.

وبجانب العوامل الديمغرافية، فقد أسهم الدعم الحكومي الكبير لقطاع التجارة الإلكترونية كإطلاق المبادرات المعزَّزة للتحوُّل الرقمي وزيادة معدلات الاستثمار في البنية التحتية وأنظمة الدفع الرقمية والإصلاحات التنظيمية لدعم نمو قطاع التجارة الإلكترونية.

منصات البيع

ويتنافس الآن عديد من المساهمين المحليين والدوليين في مجال التجارة الإلكترونية على حصة السوق بالمملكة، حيث يقدِّمون مجموعة واسعة من المنتجات والخدمات للمستهلكين، وأخذت الشركات العالمية تستحوذ على مواقع وتطبيقات بالمملكة مثل شركة أمازون الأمريكية التي استحوذت على موقع سوق دوت كوم عام 2017م مقابل 580 مليون دولار، وهي واحدة من أكبر منصات التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط، وتم بعد ذلك تغير الاسم لأمازون السعودية، وفي العام نفسه، أطلق صندوق الاستثمارات العامة بالشراكة مع شركة إماراتية، منصة نون للتجارة الإلكترونية، وهي إحدى منصات التجارة الإلكترونية في المنطقة، بعد أن حقَّقت نموًا سريعًا.

ومع تنامي منصات البيع على الإنترنت، بدأ كثير من الشركات والمتاجر الكبرى، تخصيص جزء كبير من عملها للبيع أون لاين، مثل مكتبة جرير، ومجمعات البيع بالتجزئة كالدانوب والتميمي وبنده، وكثير من العلامات التجارية أخذت طريقها صوب البيع أون لاين، وفي الوقت نفسه تنامى سوق الشراء عبر التطبيقات، ليشمل مختلف المنتجات، ولم يعد الأمر مقصورًا فقط على المطاعم، بل شمل مختلف أنواع المنتجات والخدمات.

عبدالله الخليفة

محركات النمو وتطورها

ويتطوَّر سوق التجارة الإلكترونية في المملكة نتيجة مجموعة من محركات النمو التي ستستمر في التأثير على تطور هذا المجال في السنوات المقبلة، مثل انتشار الهواتف المحمولة، (72% من السكان يحملون هواتف محمولة ذكية)، إضافة لاعتماد المدفوعات الرقمية مثل STC Pay وApple Pay وهو ما وفر للمستهلكين خيارات دفع مريحة وآمنة للمعاملات عبر الإنترنت، والأهم من ذلك البنية التحتية اللوجستية القوية، والتي زادت قوتها بعد أن استثمرت الدولة بكثافة في تحسين البنية التحتية اللوجستية، بما في ذلك إنشاء مناطق التجارة الإلكترونية ومجمعات الخدمات اللوجستية المخصصة، ما سهَّل كثيرًا من نمو التجارة الإلكترونية بتعزيز كفاءة عمليات التسليم وخفض التكاليف.

وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة التي حققها القطاع، مازال يواجه بعض التحديات الصعبة؛ إذ يكمن التحدي الأكبر في ثقة المستهلك، فعلى الرغم من نمو التجارة الإلكترونية بشكل كبير، لا يزال بعض المستهلكين مترددين في التسوق عبر الإنترنت بسبب المخاوف بشأن جودة المنتج وأوقات التسليم وأمان عملية الدفع الأمر الآخر حدة المنافسة، فالسوق يعاني من تنافسية عالية وبات كثير من المستهلكين يلجؤون إلى تُجَّار التجزئة الدوليين للحصول على منتجات غير متوفرة محليًا بسهولة، وأرخص ثمنًا، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا لتجَّار التجزئة المحليين، الذين يجب عليهم التنافس مع العلامات التجارية العالمية والتنقل في لوائح الجمارك والاستيراد المعقدة.

 

ارتفاع وعي المستهلكين

ويؤكد الخبير في التسويق، خالد الربيعان، أن انعكاسات التجارة الإلكترونية كانت ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، قائلاً: إن ارتفاع معدَّلات التطور التكنولوجي وانتشار الإنترنت زاد من الوعي بالتجارة الإلكترونية واعتمادها كوسيلة رئيسة للتسوق والتجارة، ما أسهم في زيادة عدد المتاجر الإلكترونية والمنصات التجارية عبر الإنترنت، ومكَّن الأفراد من شراء المنتجات والخدمات بكل سهولة وراحة، إضافة لذلك أصبحت التجارة الإلكترونية أكثر شيوعًا بين المستهلكين، حيث يفضلون الشراء عبر الإنترنت بدلاً من الذهاب إلى المتاجر التقليدية، هذا التغيير في سلوك المستهلك أدَّى إلى تحوُّل في استراتيجيات التسويق والبيع للشركات، وشدَّد الربيعان، على أن التجارة الإلكترونية أسهمت في تمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة من الوصول إلى السوق الإلكترونية الواسعة؛ إذ بفضلها بات لها عرض منتجاتها وخدماتها عبر الإنترنت والوصول إلى جمهور عالمي.

وقال الربيعان: إنه على الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية لاتزال التجارة الإلكترونية تواجه أيضًا تحديات، مثل: الأمن الإلكتروني وحماية المستهلك والتحديات القانونية، لذلك، تعمل الجهات المعنية على تطوير إطار قانوني وتنظيمي لدعم وتنمية القطاع وحماية المستهلكين، ويتابع بقوله إن التجارة الإلكترونية أحدثت تغييرًا إيجابيًا في السوق المحلي، فأصبحت وسيلة مهمة للتجارة والتسوق، متوقعًا أن تستمر التجارة الإلكترونية في النمو والتطور في المستقبل، مما يعزز الاقتصاد الرقمي ويوفر مزيدًا من الفرص للأفراد والشركات.

 

آفاق المستقبل

وقد اتسع قطاع البيع أون لاين حاليًا، ليشمل منتجات تلبي مجموعة واسعة من احتياجات المستهلكين، بما في ذلك الفئات المتخصصة مثل مستلزمات الحيوانات الأليفة والأطعمة المتخصصة ومنتجات تحسين المنزل، خاصة وأن السوق السعودي يمثل نقلة نوعية في اقتصاد الشرق الأوسط، وتوقعت دارسة حول اتجاهات مستقبل التجارة الإلكترونية، نُشرها المرصد الأوروبي للتجارة عن بُعد في سبتمبر من العام الماضي، أن يشهد عام 2024م تطورات هائلة في مجال التجارة الإلكترونية، من بين أبرز هذه التطورات، زيادة ملحوظة في حجم التجارة الإلكترونية على مستوى العالم، وستشهد الشركات والمتاجر الكبرى زيادة استثماراتها في البنية التحتية الرقمية وتوفير تجارب تسوق متطورة للمستهلكين.

كما أشارت الدارسة إلى أن صناعة التجارة الإلكترونية سوف تشهد تحولًا في طبيعتها بأنها ستظهر بتقنيات جديدة مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي بشكل أكبر في عمليات الشراء عبر الإنترنت، وسيتيح هذا للمستهلكين تجارب تفاعلية مذهلة تمكّنهم من معاينة المنتجات بشكل واقعي واختبارها قبل الشراء، أيضًا ستتطور طرق الدفع وتأمين المعاملات الإلكترونية لتوفير مزيد من الأمان والثقة للمستهلكين، مما يعزز نمو التجارة الإلكترونية في المستقبل.

ومن المرجح أن يتزايد الطلب على تجارب التسوق المخصصة والشخصية، حيث يفضل المستهلكون الحصول على تجربة فريدة ومميزة تتناسب مع احتياجاتهم الفردية، وبفضل التقنيات الحديثة مثل تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي، ستكون هناك إمكانية أكبر لتوفير تجارب تسوق مخصصة وتوصيات دقيقة للمستهلكين بناءً على تفضيلاتهم وسجلاتهم الشخصية.

ومن المتوقع أن يشهد القطاع اللوجستي تحسينات كبيرة أيضًا في عام 2024م، وذلك باستخدام تقنيات التتبع والتحليل والذكاء الاصطناعي لتحسين عمليات الشحن والتوصيل، مما يؤدي إلى تقليل وقت التسليم وتحسين تجربة المستهلك، وكذلك قد تشهد الشحنات الجوية بدورها تطورات كبيرة مع استخدام الطائرات بدون طيار والتكنولوجيا الذاتية القيادة لتسهيل وتسريع عمليات التسليم.