اقتصاديات الخشب

الخشب.. بين الربحية والاستدامة

جمهوريـــة كاريليــــا، وهي إحــــدى جمهوريــات الاتحـــاد الروســي تعلن عزمها إنشاء منطقة تجارة حرة بالمملكة لصناعة الأخشاب.

حجم الإنفاق في دول مجلس التعاون الخليجي على منتجات ومستلزمات التهيئة والتصميم الداخلي المنزلي يصل إلى أكثر من 17.7 مليار دولار في عام 2017م.

 

الخشب هو أحد المصادر الطبيعية الرئيسة، التي اعتمدت عليها الحضارة منذ الأزل في أغراض البناء والوقود، لمتانة خامته وإمكانية تشكيلها في الوقت نفسه، فضلًا عن توفره في الطبيعة وسهولة استخراجه، مقارنةً بالمعادن والخامات الأخرى.

ومن الواضح أن زيادة مستوى التحضر بالتزامن مع النمو السكاني وارتفاع مستوى الدخل في بعض مناطق العالم، وتطور الاقتصادات وتوسع مشروعات البنية التحتية، هي كلها عوامل، تعزِّز من زيادة الطلب على الخشب، ومن ثم زيادة إنتاجه وتصديره واتساع حجم التجارة والسوق بشكلٍ عام.

حجم تجارة الأخشاب

أصبحت تجارة الأخشاب جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، ولها آثار كبيرة على المنتجين والمستهلكين على حد سواء، وقد شهد سوق الأخشاب طفرات كبيرة وأحيانًا كسادًا، فخلال فترات النمو الاقتصادي، حدثت طفرة في الإسكان في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهو ما أدَّى إلى ارتفاع أسعار الخشب، لكن حدوث الأزمة العقاريـــــة وما نتـــــــــج عنهــا من أزمـــة مالية عام 2008م أدَّى إلى انخفاض كبير في أسعار الخشب.

ووفقًا لبعض التقديرات، فإن حجم تجارة الأخشاب عالميًا يصل إلى 140 مليار دولار، وبسبب زيادة الطلب مؤخرًا، نتيجة استخدام الخشب في قطاع الأثاث والبناء، فقد ارتفع الإنتاج العالمي للخشب المنشور بنسبة %1.9 في عام 2021م مقارنة بعام 2020م كذلك، من المتوقَّع نمو حجم سوق الأخشاب المنشورة خلال الفترة من عام 2023 وحتى 2028 بمعدَّل نمو %0.7 سنويًا، ليصل إلى حوالي 780 مليون دولار في نهاية تلك الفترة..

أما على مستوى الإنتاج، فإن الصين منتج رئيسٍ للخشب، إلى جانب اليابان والهند وتايلاند وماليزيا، فضلًا عن تركيا وفيتنام، ووفقًا لإحصاءات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فقد أنتجت الصين 84 مليون متر مكعب من الخشب المنشور في عام 2021م، كما أن الصين هي أكبر مصدر للأخشاب بحوالي 15 مليار دولار.

وتُعدُّ آسيا ومنطقة المحيط الهادي، هى أكبر سوق للخشب المنشور، خاصةً أن الصين هى أحد أكبر مستهلكي الخشب المنشور عالميًا، إلى جانب اليابان في آسيا، وألمانيا وكندا، أما الولايات المتحدة فهى أكبر مستورد للأخشاب على مستوى العالم، بحوالي 23 مليار دولار، وفيما وصل نمو استهلاك الولايات المتحدة إلى %11، فإنه وصل في الصين إلى %34، واستوردت منطقة آسيا والمحيط الهادئ في عـــــام 2021م أخشابًـــا منشـــورة بقيمة 16.9 مليار دولار أمريكي (56.8 مليون متر مكعب من الخشب).

وفي عام 2021م شهدت أسواق الولايات المتحدة نقصاً كبيرًا في الخشب، وأصبحت “ساحة الأخشاب” هي التي تبيع الخشب للموردين على عكس الأوضاع الطبيعية، وارتفعت العقود الآجلة إلى ما يزيد على الـ %60 بسبب الطلب المتزايد على الأخشاب.

وفيما تحتل فرنسا المرتبة الأولى بين الدول الأوروبية التي تستخدم الخشب كمصدر للطاقة، فهو يستخدم في ثلث المنازل كمصدر رئيسٍ أو احتياطي للتدفئة، فإن صناعة الغابات تلعب دورًا مهمًا في الاقتصاد الروسي، إذ تبلغ مساحة روسيا أكثر من 17 مليون كم2، منها حوالي %45 غابات، وتبلغ حصــــة روسيـــــا في التجارة العالمية للأخشــــــاب %4، وتتمثـــــل أكثر من نصــــــف صادراتها في الألــــــواح الخشبيــــــة ونشارة الخشب.

الخشب في الخليج

وقد ظهرت تجارة وصناعة المنتجات الخشبية في دول مجلس التعاون الخليجي منذ زمن بعيد، فظهرت ورش النجارة اليدوية الصغيرة لتلبية الطلب المحدود وقتها، ولكن نمت تجارة وصناعة الأخشاب، مع تمرس أبناء الخليج وامتهانهم صناعة السفن والمراكب الخشبية البحرية، خاصةً مع رواج صيد الأسماك والغوص لجمع اللؤلؤ.

في العقود الماضية، وتحديدًا في عام 2010م، أعلنت منظمة الخليج للاستشارات الصناعية (جويك) أن إجمالي الاستثمارات في قطاع صناعة الخشب والمنتجات الخشبية في دول مجلس التعاون الخليجي بلغ حوالي 478 مليون دولار، منها 294 مليون دولار في المملكة، تلتها دولة الإمارات بحوالي 121 مليون دولار، بينما جاءت دولة الكويت في المرتبة الثالثة.

وفي الإمارات زادت تجارة الأخشاب، بسبب نمو مشروعات القطاع العقاري في دبي، والتي بلغت قيمتها عام 2017م، حوالي 285 مليار درهم إماراتي، وشهدت دبي بناء مايزيد على الـ 50 ألف منزل جديد خلال 2017م و2018م وبشكلٍ عام، فقد بلغ إجمالي تجارة الإمارات من الخشب والمنتجات الخشبية حوالي 1.1 مليار دولار أمريكي عام 2016م.

وتحتل الإمارات مركزًا مهمًا على خريطة تجارة الخشب الإقليمية، إذ إن %30 من واردات الخشب الأمريكي إلى دبي تتم إعادة تصديرها، وبشكل عام، فإن صادرات الأخشاب الأمريكية إلى دول الخليج تسجِّل منذ سنوات نمواً يصل إلى %25.

ووفقًا لشركة فنتشرز الشرق الأوسط، فقد ارتفع حجم الإنفاق في دول مجلس التعاون الخليجي على منتجات ومستلزمات التهيئة والتصميم الداخلي المنزلي ليصل إلى أكثر من 17.7 مليار دولار في عام 2017م.

وكانت أبرز التطورات مؤخرًا في صناعة وتجارة الأخشاب في الخليج، إعلان جمهورية كاريليا، وهي إحدى جمهوريات الاتحاد الروسي عزمها إنشاء منطقة تجارة حرة بالمملكة لصناعة الأخشاب والبناء وتعزيز سلاسل الإمداد وإقامة صناعات مشتركة بين المستثمرين في البلدين.

مشروعات الأرباح العالية

أصبــــح مشـــــروع تجــــــارة الخشــــب من المشروعات ذات الأربـــاح الجيـــــدة، بعـــــد أن أصبح من المستلزمات المهمة للبشر في كل بقاع الأرض، خاصةً مع التحضر ونمو قطاع التشييد والبناء والإسكان، وعلى سبيل المثال، ففي أستراليا هناك حوالي 160 ألف منزل يتم بناؤه سنويًا، وهو رقم ضخم مقارنة بالتعداد السكاني هناك.

وتتعدَّد استخدامات الخشب، إذ أصبح يدخل في إنتاج وصناعة الورق ومواد البناء، وصناعة الألواح الليفية والخشب الحبيبي والخشب الرقائقي، وتأسيس المنازل والأرضيات والأسقف والنوافذ والأبواب وأعمال الديكور والتصميمات الداخلية.

كما تستخدم معظم الدول النامية، الخشب كوقود مباشر، وفي إفريقيا المدارية تبلغ نسبة استخدام الأخشاب كوقود أكثر من %80 من الإنتاج، وتصل في تايلاند وسريلانكا إلى %63، وفي الهند وباكستان إلى %36، وفي البرازيل إلى %33، وتقل هذه النسبة في الدول المتقدِّمة، لتصل في الولايات المتحدة إلى %14 من الإنتــــاج في الوقــــــود، و%52 في أخشاب البناء، أما النسبة الباقية، فيتم استغلالها في الورق وخشب الابلاكاج وغيره.

المخاطر البيئية

تتزايد أهمية الخشب، في ظل إمكانية إعادة تدويره واستخدامه كبديل عن المواد غير المتجدِّدة، ولذلك يُعدُّ صديقًا للبيئة، حيث يُسهم في مواجهة تهديدات المناخ والتنوُّع البيولوجي الناتجة عن الإفراط في استخدام الموارد غير المتجددة.

وتُعــــد مشكلــــــة قطع الأخشـــاب وإزالة الغابات، مسألة بيئية مُلِحَّة؛ فعلى الرغم من أهمية الأخشاب للبشر، إلا أن قطع الأشجار للحصول على الأخشاب يُعدُّ أمرًا خطيرًا على البيئة؛ فغني عن القول إن الأشجار هي المنتج الرئيس للأكسجين.

وتتزايد المخاوف على المستوى العالمي، من قطع الأخشاب، سواء كان ذلك، بصورة مشروعة أو غير مشروعة لتلبية الطلب المتنامي على الأخشاب محليًا ودوليًا، في ظل أن الغابات تُعدُّ ضرورة حيوية للحفاظ على التنوّع البيولوجي، وتنظيم المناخ، وعلى العكس من ذلك، فإن قطع الأشجار غير القانوني، الذي يؤدي إلى إزالة الغابات بالكامل في منطقة معيَّنة، يؤدي إلى تدمير النظام البيئي للغابات وتآكل التربة، والقضاء على الحياة البرية، وزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة.

وعلى سبيل المثال، فإن خشب الورد نوع من الأنواع التي يعتز بها الصينيون في ثقافتهم، مما يجعل الطلب عليه كبيرًا، إلى جانب الخامات الخشبية، كالأبنوس والساج، وهو ما يؤدِّي إلى تجريد الغابات، وإلى تأثيرات بيئية واقتصادية واجتماعية في إفريقيا بسبب الدعم الصيني الموسع لقطع الأشجار هناك، ففي عام 2011م، أعلنت جامبيا أن ثروتها من خشب الورد تكاد تكون قد نضبت، وفي موزمبيق تم الإعلان عام 2017م، أن قطع الأشجار غير القانوني يحرم بلاده من عائدات بقيمة نصف مليار دولار أمريكي سنويًا.

وفي عام 2003م، اعتمد الاتحاد الأوروبي برنامج إنفاذ قوانين الغابات وحوكمتها وتجارة مواردها، من أجل تعزيز التدابير لمنع تجارة الأخشاب غير القانونية، وكان من بين هذه التدابير، تتبع منشأ الأخشاب، ومراقبة الغابات ورصد قطع الأشجار، وعقد اتفاقات الشراكة الطوعية بين الاتحاد الأوروبي والبلدان المنتجة للأخشاب، بهدف التمييز بين الاستغلال الشرعي وغير الشرعي لقطع الأخشاب.

وفي أكتوبـــــر 2013م، أعلنـــــــت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” أن حكومات البلدان الرئيسة المنتجة للأخشاب في إفريقيا، قد اتفقت مع ممثلي صناعة الأخشاب ومنظمات المجتمع المدني على التصدي معًا لتجارة الأخشاب غير الشرعية في حوض الكونغو، الذي يغطي مساحة رقعتها 300 مليون هكتار، وهو ثاني أكبر الغابات الاستوائية في العالم. ويمثل المورد الرئيس في العالم للأخشاب غير الشرعية، ويُمثل هذا الاتفاق التزامًا مهمًا بهدف التنمية المستدامة والاستخدام المشروع لموارد الأخشاب، كما يلزم الشركاء بتنفيذ تدابير من شأنها ضمان الشفافية، وإقرار حوكمة الغابات.

وقبلها، وتحديدًا في عام 2004م، نجحت سويسرا في التوصل إلى صياغة أول تعاقد ينظم عملية التجارة في الأخشاب الاستوائية داخل سويسرا، من أهمها ضرورة ذكر بلد منشأ الأخشاب المستوردة، والالتزام بذكر نوعية الأشجار، ومنع توريد الأصناف التي يتم حظر الاتجار فيها دوليًا، للحفاظ عليها من الانقراض أو لأنها غير مطابقة للمواصفات السويسرية ولعدم إدخال أخشاب مريضة.

وفي أستراليا، يُبذل عديد من الجهود في سلسلة جبال “استرزيليكز” من أجل المحافظة على الغابات القديمة في الجبال، وماتحتويه من نباتات وحيوانات متنوِّعة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على صناعة الأخشاب، ومؤخرًا، تم توقيع اتفاقية بين الشركة المالكة لحقوق قطع الأخشاب في تلك المنطقة وبين جماعتين لحماية البيئة، بهدف إدارة هذه الأراضي والحفاظ على التنوُّع البيولوجي وتطوير المصادر الخشبية.

كما بدأت الصين اتخاذ عديد من الخطوات لحماية بعض غاباتها وإعادة زراعة البعض الآخر، وفي أغسطس عام 2021م، أصدرت تركيا حظرًا على تصدير الأخشاب المنشورة لمنع أوجه نشاط التصدير غير القانونية، وفي العام نفسه، صدرت لائحة في الهند لتنظيم عمل الصناعات القائمة على الخشب، من خلال تراخيص أو توجيهات معينة.

 

الربحية والاستدامة

تلعب تجارة الأخشاب ـ كما ذكرنا ـ دورًا مهمًا في التجارة العالمية؛ حيث توفر المواد الخام اللازمة للبناء وإنتاج الأثاث ومختلف الصناعات الأخرى، ووفقًا لبعض التقديرات، فإن قطاع البناء والتشييد، وهو المستهلك الرئيس للخشب، سيشهد نموًا في السنوات المقبلة، نتيجة التحضر السريع والنمو السكاني وتطوير البنية التحتية، وهو ما يمثل فرصة جاذبة للمستثمرين.

ويمكن للخشب أن يحل محل مواد البناء الأخرى في عديد من المباني والإنشاءات، وعلى سبيل المثال، يمكن أن يتم تصميم الجسور الخشبية لتؤدي الوظائف نفسها وتكون بالعمر الافتراضي نفسه، للجسور المُصنعة من الصلب أو الخرسانة.

ولكن مع استمرار ارتفاع الطلب على الخشب، يصبح من الضروري تحقيق التوازن بين الربحية والاستدامة البيئية، وهو ما يتطلب وضع السبل الكفيلة بمعالجة الأثر البيئي لتجارة الأخشاب ومكافحة قطع الأشجار غير القانوني، واستكشاف مواد بديلة.

وكذلك ضرورة تعاون المنظمات الدولية المعنية والحكومات من أجل تطبيق واتخاذ إجراءات صارمة لمكافحة أوجه النشاط غير القانونية لقطع الأشجار، وعلى رأس ذلك ضرورة شفافية سلاسل التوريد وتتبع منشأ المنتجات الخشبية وضمان شرعيتها والتوثيق الإلزامي لمنع دخول الأخشاب غير القانونية إلى السوق.