حدوث نقص أو عجز في هذا المعدن المهم والمحوري لعديد من الصناعات، يعني توقف آلاف المشاريع الحيوية وصعوبة تنفيذ عديد من مشروعات الطاقة النظيفة.
يُوصف معدن النحاس بالرابح الأكبر، أمام توجه العالم نحو الكهرباء بما يشمل السيارات الكهربائية، الذكاء الاصطناعي، طفرة مراكز البيانات، ثورة الطاقة الخضراء، وقد ارتفع النحاس إلى أعلى مستوى له في عامين وتخطى خلال العام عتبة الـ 10 آلاف دولار للطن، وثمة توقعات بارتفاعه إلى الـ 12 ألف دولار على مدى العامين المقبلين، وذلك بدعم من شح المعروض من ناحية؛ إذ تتعرض نصف مناجم النحاس في العالم للجفاف بحلول عام 2050م، ومن ناحية أُخرى ارتفع الطلب عليه.
ويُعد النحاس مؤشرًا محوريًا ومهمًا للاقتصاد الدولي؛ حيث إنه يُشير إلى تزايد أو تراجع حركة التشييد والبناء وتوليد الطاقة والنقل وصناعة الإلكترونيات، فضلاً بالطبع عن صناعة الكابلات الكهربائية، التي تستهلك %40 من إنتاج النحاس في العالم..
ولا شك أن حدوث نقص أو عجز في هذا المعدن المهم والمحوري لعديد من الصناعات، يعني توقف آلاف المشاريع الحيوية وصعوبة تنفيذ عديد من مشروعات الطاقة النظيفة، وهو الأمر الذي حذرت منه وكالة بلومبيرج اعتمادًا على بيانات شركات التنقيب وتجار المعادن، وأشارت إلى أن السنوات القليلة المقبلة ستشهد نقصًا كبيرًا في النحاس، الأمر الذي يمكن أن يعيق النمو العالمي ويزيد التضخم؛ من خلال زيادة تكاليف التصنيع، وإعاقة تحقيق أهداف المناخ العالمية.
أمن إمدادات المعادن
يُشكل قطاع التعدين عاملاً مهمًا في تنمية القطاعات الاقتصادية، والصناعات الداعمة، من خلال فتح مجالات عمل متعددة، بما يحتاجه من تخصصات متعددة، مثل: (معالجة المعادن، تجميع المعادن، الهندسة الكيمائية، دراسة البيئة)، كما يحتاج قطاع النحاس تحديدًا لاستثمارات كبيرة لاستخراج أسلاك النحاس والمعادن، التي تدخل في الصناعة، والتي تزيد من المحتوى المحلي وترفع من قيمة الاقتصاد الوطني.
وتسعى المملكة لضمان أمن إمدادات المعادن المحلية والمشاركة في سلسلة التوريد العالمية، وكذلك لتنمية قطاع التعدين، الذي وصلت الاستثمارات فيه إلى 120 مليار ريال (32 مليار دولار)..
وثمَّة مؤشرات عديدة على أن المملكة مُقبلة على الانفتاح نحو صناعة واستكشاف التعدين ومنتجات المعادن المختلفة، ومنها المعادن النادرة، بعد أن أثبتت عمليات الاستكشاف وجودها في بطن الأرض، وأن الأرض بها مخزون كبير من الفلزات والمعادن، وهو ما دفعها للسعي إلى ضخ نحو 1.3 تريليون دولار لاستغلال تلك المخزونات الضخمة من الثروات المعدنية..
صهر وتنقية النحاس
وكانت شركة “رفد النحاس الصناعية” أبرمت يناير 2024م اتفاقية مع شركة “جلينكور للتنقية” بشأن مشروع صهر وتنقية النحاس، وهو “المصهر الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط”، وتبلغ طاقته الإنتاجية 400 ألف طن سنوي من الصفائح النحاسية الكاثودية بنقاوة تصل إلى %99.9 بتكلفة إجمالية تُقدر بحوالي 5.5 مليار ريال سعودي (1.5 مليار دولار أميركي).
وتشمل الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، اتفاقيات حول الأعمال الهندسية وترخيصًا تقنيًا لصهر وتنقية النحاس، وقبلها أيضًا تم توقيع اتفاقيات سابقة، تشمل تقديم خبرات التشغيل والصيانة والتدريب، وتزويد مصهرها بالمواد الخام اللازمة، ومركزات النحاس من مناجم النحاس المحلية والدولية لإنتاج الصفائح الكاثودية النحاسية عالية النقاوة، والتي تُستخدم كمادة أساسية في صناعات كثيرة بالمملكة، مثل صناعة الكابلات والأسلاك والمحولات الكهربائية وصناعة أنابيب التبريد..
ومن فوائد وجود مصهر وتنقية للنحاس، أهميته لسلاسل الإمداد، إذ تفتقد المصانع في الشرق الأوسط، لمثل هذه التقنيات وصيانتها في المنطقة..
وبشكلٍ عام، فإن مشروع مثل مشروع مصهر النحاس، من المتوقع أن يؤدي إلى توليد ألف وظيفة مباشرة و2500 وظيفة غير مباشرة، كما أنه سيحد من الاعتماد على الاستيراد الخارجي، إذ سيغطي إنتاج المصهر في المرحلة الأولى حوالي %70 من الطلب المحلي، أما في المرحلة الثانية، فإنه من المقرر زيادة الطاقة الإنتاجية، لتغطية مزيد من الطلب المتنامي في السعودية وفي العالم..
الأعمال الاستكشافية
كما وقَّعت الشركة الكندية “باريك جولد” يناير 2023م اتفاقيتين لتدشين مشروعين مشتركين مع شركة “معادن” لاستكشاف النحاس في منطقتي جبل صايد جنوب المدينة، وأم الدمار بالمملكة، ومن أجل توسيع الأعمال الاستكشافية لباريك جولد في السعودية، التي تمتلك مناصفة مع “معادن” منجم جبل صايد للنحاس، الذي ارتفع إنتاجه إلى 152 مليون رطل سنويًا في 2021م مقابل نحو 110 ملايين رطل في 2018م..
ومن جانب آخر، تهتم المملكة بمنح التراخيص للشركات الأجنبية والإقليمية، إلى جانب الشركات الوطنية، إذ تم منح ترخيص للشركة الإنجليزية “موشيكو رسورسز”، التي لديها مشروع لاستخراج النحاس في زامبيا، وشركة عجلان وإخوان، وتعمل المملكة على تنفيذ نظام يسمح بإصدار تصاريح التعدين في غضون 30 يومًا..
ولم تكتف المملكة بذلك، لكنها إدراكًا منها لأهمية الاستثمار في هذا المجال، فقد تمَّ الإعلان خلال العام الماضي 2023م، عن إجراء المملكة محادثات مع باكستان لشراء جزء من حصة الحكومة في مشروع للنحاس قيمته 7 مليارات دولار، وهو مشروع “ريكو دك”، المملوك بشكل مشترك مع “باريك جولد”، والذي يُعدُّ واحدًا من أكبر مكامن النحاس والذهب غير المستغلة حول العالم، ويصل إنتاجه إلى 200 ألف طن من النحاس، و250 ألف أونصة من الذهب سنويًا.
وتعمل المملكة من جانب آخر، على الاستثمار التعديني وفتح مجالات الاستكشاف للمستثمرين من خارجها لاستقطاب الشركات العالمية المتخصصة في هذا القطاع، وإعطائها رخص تنقيب للإسهام في إحداث قفزة نوعية لهذه المعادن.
وقد كشفت دراسة لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية عام 2016م، حول مخزون النحاس والاحتياطيات في المملكة، أن أراضي المملكة تحوي أرقامًا كبيرة في مخزون النحاس تتجاوز مئات الملايين من الأطنان، وبالفعل اكتشفت الهيئة من خلال عمليات التنقيب مخزونًا للنحاس يتجاوز مئات الملايين من الأطنان في مساحة لا تتجاوز 3 آلاف متر مربع، كما أشارت عمليات التنقيب إلى أن هناك مؤشرات كبيرة لاكتشاف مناجم ذهب ونحاس بالمدينة المنورة، ستسهم وبشكل كبير في رفع إجمالي إنتاج السعودية إلى أكثر من 10 أطنان سنويًا..
أربعة أسواق
وحاليًا، توجد أربعة أسواق رئيسة للنحاس في الشرق الأوسط، وهي المملكة والإمارات وتركيا وإيران؛ وتمثل فيما بينها نحو %5 من الاستهلاك العالمي، أو 1200 إلى 1250 كيلو طن سنويًا..
وتُعد المملكة أكبر منتج في دول مجلس التعاون الخليجي؛ إذ يُنتِج منجما جبل صايد والمصانع نحو 64 كيلو طنًا و5.9 كيلو طنًا على التوالي في عام 2023م..
وعلى المستوى الإقليمي، تتمتع مصر أيضًا بقدرة تكريرية تبلغ نحو 4 كيلو طن سنويًا؛ كما تمتلك إيران احتياطيات كبيرة من خام النحاس نحو %6 من الإجمالي العالمي، وتنتج تركيا نحو 100 كيلو طن سنويًا..
وبلغ إجمالي صادرات المملكة من النحاس خلال 2018م، نحو 2.16 مليار ريال، لـ 137 مليون كيلو، وكانت أهم الدول التي تم التصدير إليها، هي كوريا الجنوبية والهند والصين واليابان وتايوان واليونان، ومن الدول العربية الإمارات ومصر والبحرين..
أما واردات السعودية من النحاس خلال 2018، فقد بلغت 6.9 مليار ريال، لنحو 268 مليون كيلو، ومن أهم الدول التي يتم الاستيراد منها، الإمارات والكونغو وروسيا وإسبانيا، وزامبيا، وأمريكا، والصين، وألمانيا، وماليزيا، والهند..
وفي عام 2022م، سجلت المملكة أعلى فائض تجاري على مستوى منتجات النحاس ومنتجاته مع دولة كوريا الجنوبية بقيمة (فائض 1.22 مليار ريال)، تليها دولة الهند بقيمة (فائض 1.05 مليار ريال)، والصين بقيمة (فائض 674 مليون ريال)..
تحديات التوسع
من ناحية أخرى، تم تسجيل أعلى عجز تجاري على مستوى منتجات النحاس ومنتجاته مع دولة جمهورية الكونغو الديمقراطية بقيمة عجز 3.04 مليار ريال، تليها دولة الإمارات العربية المتحدة بقيمة عجز 1.34 مليار ريال، وروسيا الاتحادية بقيمة (عجز 1.21 مليار ريال)..
ولا شك أن المشروعات وعمليات التنقيب والاكتشافات، أسهمت بالفعل في مضاعفة إنتاج النحاس، وساعدت في الإسراع بتنفيذ خطة استراتيجية لبناء مصهر للنحاس، ما يُمكِّن كل الصناعات التي تعتمد على النحاس من إيجاد المادة الأساسية في السوق المحلية، وعلى الرغم من أن المملكة لديها القدرة والإمكانات لزيادة الاستفادة من معدن وصناعة النحاس، سواء من خلال مشروعات الشراكة والتنقيب والاكتشافات، بما يخفف النقص الذي سيواجهه العالم، نتيجة التوجه نحو الطاقة النظيفة، إلا أن المملكة تواجه بعض التحديات في هذا المجال، كأهمية وجود بنية تحتية على نطاق واسع، ويشمل ذلك وجود خط للسكك الحديدية، بما يسهم في تسهيل جلب ونقل الموارد بين شمال البلاد وشرقها لتتم معالجتها ثم شحنها، وأهمية إمدادات المياه، باعتبارها موردًا مهمًا وضروريًا لإنتاج المعادن من المناجم المفتوحة أو تحت الأرض، فضلاً عن تحدي ضرورة جذب شركات المناجم العملاقة ذات الخبرة العالمية والأموال الضخمة، التي تتنافس مع الشركات الأصغر في المزادات للحصول على حقوق الاستكشاف.