الحوكمة تُمكّن الشركات من تقليل مخاطر سوء الإدارة وتضمن مشاركة الموظفين في صنع القرار وتوفر بيئة يشعر فيها العاملون بالتقدير والاستقرار.
يتطلب التطبيق الناجح للحوكمة تدريب الكوادر الإدارية، وتطوير أنظمة الموارد البشرية، وتهيئة ثقافة مؤسسية تؤمن بأهمية الشفافية والعدالة والمساءلة.
تُعد الكفاءات البشرية حجر أساس في نجاح واستدامة المؤسسات، إذ تمثل المورد الأكثر تأثيرًا في تحقيق الأهداف الاستراتيجية وتعزيز التنافسية في أسواق شديدة التغيِّر، ومع تصاعد التحديات التي تواجه بيئات العمل المعاصرة، خاصة في ظل العولمة والتقدم التكنولوجي المتسارع، أصبح الحفاظ على الكفاءات أحد أبرز الأولويات الإدارية، ومع ذلك، يعاني عديد من المؤسسات من ظاهرة تسرب الكفاءات، التي تؤدي إلى خسائر فادحة على المستويين البشري والمادي.
وفي هذا السياق، برزت الحوكمة المؤسسية كأداة فعّالة لضمان الانضباط الإداري وتعزيز بيئة العمل العادلة والجاذبة، من خلال ترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة والمساواة، وإن تطبيق الحوكمة لا يقتصر على الجوانب المالية أو القانونية، بل يمتد ليشمل إدارة الموارد البشرية بكفاءة، ما ينعكس بشكل مباشر على الحد من تسرب الكفاءات ورفع معدلات الاحتفاظ بالموظفين ذوي الأداء العالي.
مفهوم الحوكمة وأهميتها في المؤسسات
وفي ظل التغيرات السريعة التي تشهدها بيئات العمل والتنافس الشديد على الكفاءات البشرية، أصبحت قضية تسرب الكفاءات من أبرز التحديات التي تواجه الشركات والمؤسسات في مختلف القطاعات، ويتطلب هذا الواقع اعتماد أدوات واستراتيجيات فعالة لضمان الحفاظ على الموظفين ذوي المهارات العالية، وتأتي الحوكمة كأحد الحلول الجوهرية لهذه المعضلة.
وتسهم الحوكمة الجيدة في خلق بيئة عمل عادلة وشفافة ومحفزة، تقلل من معدلات دوران العمالة وتعزز من استقرار القوى العاملة، وتشير الحوكمة إلى مجموعة القواعد والممارسات التي تُدار بها المؤسسات بطريقة تضمن الشفافية، والمساءلة، والنزاهة، والكفاءة، وتتجلى أهمية الحوكمة في تعزيز الثقة بين جميع أصحاب المصلحة، سواء كانوا موظفين، أو إداريين، أو مستثمرين، أو حتى عملاء، وفي هذا السياق، تعتبر الحوكمة أداة إدارية وتنظيمية تهدف إلى توجيه المؤسسة نحو تحقيق أهدافها بطريقة مستدامة.
ومن خلال تطبيق مبادئ الحوكمة، تتمكن الشركات من تقليل المخاطر المرتبطة بسوء الإدارة، وتضمن مشاركة الموظفين في صنع القرار، وتوفر بيئة يشعر فيها العاملون بالتقدير والاستقرار، مما يقلل من احتمالية مغادرتهم بحثًا عن فرص أخرى.
أسباب تسرب الكفاءات من المؤسسات
ولفهم الدور الحقيقي للحوكمة في تقليل تسرب الكفاءات، لا بد من تحديد أبرز الأسباب التي تدفع الكفاءات إلى مغادرة مؤسساتهم، والتي من أهمها: ضعف العدالة التنظيمية، حيث يشعر الموظفون بعدم المساواة في توزيع المهام أو التقييم أو المكافآت، ونقص الشفافية، إذ يؤثر غياب المعلومات حول مستقبل المؤسسة أو القرارات المصيرية سلبًا على شعور الموظفين بالأمان الوظيفي، وكذلك عدم وضوح المسارات المهنية؛ لأن غياب الخطط الوظيفية والتطويرية يدفع الكفاءات للبحث عن فرص أفضل، وأيضًا ضعف التواصل الداخلي، فعدم وجود قنوات فعالة للحوار بين الإدارة والعاملين يولّد شعورًا بالتهميش، وأخيرًا سوء الإدارة والقيادة، فالإدارة غير المؤهلة أو غير العادلة تُعد من أبرز العوامل التي تدفع الكفاءات إلى مغادرة المؤسسات، لما تخلّفه من شعور بالإحباط وفقدان الثقة لدى الموظفين، فعندما يغيب مبدأ الإنصاف في توزيع المهام، أو في التقييم السنوي، أو في فرص الترقية، يشعر الموظف بالكبت والتمييز، مما ينعكس سلبًا على دافعيته وانتمائه.
كما أن تجاهل الإدارة لاحتياجات الموظفين، أو اتخاذ قرارات تعسفية دون إشراكهم أو مراعاة ظروفهم، يؤدي إلى بيئة عمل سامة لا تشجع على الإبداع أو الاستمرار، وغالبًا ما تبحث الكفاءات عن بيئة تقدر جهودها وتعتمد على العدالة في المعاملة، وبالتالي فإن غياب هذه العدالة يجعل من تسربهم أمرًا شبه حتمي، خاصة في سوق عمل يتسم بالمرونة وتعدد الفرص.
الحد الأدنى من العدالة والشفافية داخل المؤسسة
وتتدخل الحوكمة في معالجة كل المسببات السابقة من خلال آليات تنظيمية ومبادئ تضمن الحد الأدنى من العدالة والشفافية داخل المؤسسة، ومن أبرز الطرق التي تسهم بها الحوكمة في الحد من تسرب الكفاءات، هو تعزيز العدالة والمساواة، وذلك من خلال وضع سياسات واضحة ومعايير موحدة للتوظيف، والتقييم، والترقيات، والمكافآت، فالحوكمة تضمن معاملة جميع الموظفين بعدالة، وهذا يعزز شعورهم بالإنصاف ويقلل من شعور الظلم الذي قد يدفعهم إلى الاستقالة.
كما تسهم الحوكمة في دعم الشفافية في صنع القرار، من خلال توفير معلومات دورية حول أداء المؤسسة، وتوجهاتها المستقبلية، ومشاركتها مع الموظفين يشعرهم بأنهم جزء من الصورة الكاملة، فالشفافية تخلق بيئة ثقة متبادلة بين الإدارة والموظفين، وتقلل من الشائعات والمخاوف.
وتضع الحوكمة كذلك استراتيجيات واضحة لتطوير الموظفين، انطلاقًا من أن الاهتمام بتطوير الكفاءات من خلال التدريب المستمر، وتحديد مسارات مهنية واضحة، وربط الأداء بالترقية، يُعد من ركائز الحوكمة الحديثة، وهذا يعزز الولاء الوظيفي ويشجع الكفاءات على البقاء والنمو داخل المؤسسة.
وعلاوة على ذلك تُسهم الحوكمة في تحسين جودة القيادة والإدارة، فالقيادة الرشيدة جزء أساسي من ممارسات الحوكمة، ومن خلال وضع ضوابط لممارسات المديرين، وإخضاعهم للمساءلة، وتحفيزهم على استخدام أساليب الإدارة الحديثة، يتم تقليص احتمالية الصدام مع الموظفين.
ويأتي قدرتها على إشراك الموظفين في اتخاذ القرار، من خلال أن يكون للموظف رأي مسموع في القرارات التي تخص عمله، يزداد ارتباطه بالمؤسسة، الحوكمة تدعو إلى تفعيل مشاركة الموظفين، عبر اللجان أو استطلاعات الرأي أو اللقاءات الدورية.
أمثلة واقعية لتأثير الحوكمة في تقليل تسرب الكفاءات
ويمكن رصد تجارب عدة لمؤسسات وشركات استطاعت من خلال تطبيق مبادئ الحوكمة أن تحسن من بيئة العمل وتقلل بشكل ملحوظ من معدل تسرب الموظفين، فعلى سبيل المثال، قامت شركة تشارتر للاتصالات، مشغل خدمة للإنترنت والتلفزيون المدفوع في الولايات المتحدة، بتطبيق خطة شراء أسهم للموظفين تهدف إلى تعزيز الاحتفاظ بالموظفين، فقد سمحت الخطة للموظفين بشراء أسهم الشركة من خلال خصم يصل إلى %15، مع منح وحدات أسهم مقيدة تتضاعف بعد ثلاث سنوات، بالإضافة إلى ذلك، قدمت الشركة زيادات في الرواتب وتغطية تكاليف التعليم، مما أدى إلى انخفاض معدل دوران الموظفين في الخطوط الأمامية بنسبة %12 خلال عامين، كما نفذت سلسلة فنادق هيلتون برامج تهدف إلى تعزيز التنوع والشمولية، مثل تدريب الموظفين على التحيز غير الواعي، واستخدام بطاقات تقييم التنوع والشمولية، وبرامج القيادة النسائية، أسفرت هذه المبادرات عن تقليل معدل دوران الموظفين الإناث بنسبة %50، وأيضًا تُعتبر IKEA من الشركات التي تبنت هيكلية تنظيمية مسطحة تشجع على تمكين الموظفين ومنحهم حرية اتخاذ القرارات، وتُشجع الموظفين على تقديم الأفكار والمشاركة في اتخاذ القرارات، مما يعزز من شعورهم بالانتماء والولاء للشركة، وهذا النهج أسهم في تقليل معدل دوران الموظفين وزيادة رضاهم الوظيفي.
تحديات تطبيق الحوكمة ودورها في الموارد البشرية
وبرغم أهمية الحوكمة، إلا أن تطبيقها في مجال إدارة الموارد البشرية يواجه عدة تحديات، مثل: مقاومة التغيير من قبل بعض الإدارات التقليدية، ونقص الوعي بمفهوم الحوكمة وأثرها الإيجابي على بيئة العمل، وغياب القوانين أو التشريعات الملزمة في بعض الدول أو القطاعات، والحاجة إلى بنية تحتية تنظيمية تدعم تطبيق المبادئ مثل وجود لجان رقابة داخلية.
ولذلك، يتطلب التطبيق الناجح للحوكمة تدريب الكوادر الإدارية، وتطوير أنظمة الموارد البشرية، وتهيئة ثقافة مؤسسية تؤمن بأهمية الشفافية والعدالة والمساءلة.
وفي عالم تتسارع فيه التغيرات وتشتد فيه المنافسة على الكفاءات البشرية، تظهر الحوكمة كأداة استراتيجية لا غنى عنها للحفاظ على رأس المال البشري، من خلال تعزيز العدالة، والشفافية، والمساءلة، والتطوير المستمر، تسهم الحوكمة في بناء بيئة عمل جاذبة، وتقلل من تسرب الكفاءات، لذا، فإن المؤسسات الراغبة في الاستدامة والتميز ينبغي أن تضع الحوكمة في صميم استراتيجياتها الإدارية والتنظيمية.