نافذة

الرحلة التي لا تنتهي أبداً!

لا أبالغ إن قلت إن «السعادة» هي من أكثر الأمور التي شغلت فِكر البَشَر، إذ إنها مطلب أساسي لكل إنسان مهما كان لونه ودينه وعِرقه وعِلْمه وثراؤه. ولا أعرف فيلسوفاً أو مفكراً أو عالماً عالمياً إلا وكتب عن السعادة مقالات متفرقة، أو مصنَّفات كاملة، ومنهم أرسطو، وإسبينوزا، وألبير كامو، وبرتراند رَسِل، وبوذا، والدلاي لاما، وليو تولتسوي، ومكسيم جوركي، وغيرهم كثير جداً مما لا أستطيع حصره. ولم تُهمل الأديان والكتب السماوية ذِكْر السعادة، بل جعلَتْ في اتِّباعها والتقيُّد بمبادئها السعادة كلها، وقد ورد في القرآن الكريم في سورة النحل الآية 97: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً»، والحياة الطيبة هنا تعني منتهى السعادة، في الدنيا والآخرة.

والنجاح، في الحياة عموماً، ليس مفتاحاً من مفاتيح السعادة، ولكن في السعادة توجد مفاتيح النجاح كلها، فحين نحب ما نعمله، ونكون سعيدين به، مندفعين لتأديته، ننجح في النهاية.

أذكر أن صديقاً لي قال بحسرة: «توقعت السعادة تكمن في إتمامي الدراسة التوجيهية، ولما أتممتها، لم أجد السعادة! ثم تخيلت أن السعادة تكمن في قبولي في الجامعة وتخرجي منها، وعندما أنهيتها، وبتفوق، لم أجد ما كنت أبحث عنه! بعدها اعتقدت أن السعادة تكمن في إيجاد عمل وإثبات الذات، ثم وجدت العمل الجيد مع الراتب المتميز والمنصب الرفيع، ولم أجد السعادة! ثم قلت لابد أن السعادة تكمن في الزواج والاستقرار والأولاد، وها أنا متزوج ومستقر وعندي أولاد، لكن أين السعادة؟ ما زلت لا أدري!».

والوهم الذي وقع في حبائله صديقي، ويقع فيه كثير من الناس، هو الاعتقاد بأن السعادة مجرد «محطة» يمكن الوصول إليها، وهذا غير صحيح، فالسعادة «رحلة» وليست «محطة»!.

في سيرورة حياتنا، وفي انطلاقنا من مرحلة لأخرى، أو من نقطة تحوّل لنقطة ثانية «أ ـ ب»، فإن السعادة لا تكمن في النقطة «أ» ولا حتى في الوصول إلى النقطة «ب»، لكننا نجدها بين النقطتين، بين البداية والنهاية، بين بدء الدراسة ونهايتها، بين بدء العمل وإنجازه، بين المحبة والارتباط الدائم والفراق، بين المرض والشفاء، بين الهجرة والعودة، بين الخصام والوئام، بين الظلمة والنور.

السعادة ليست حالة دائمة، لكنها في الحقيقة مجرد «لحظات» حلوة هانئة، والدليل أننا لا يمكننا تذكُّر تفاصيل كل مرحلة من مراحل حياتنا، بل نتذكر منها «لقطات» أو «مواقف»، هي تلك اللحظات الجميلة التي تختزنها الذاكرة في أدراج السعادة. وهذا ما يدفعنا إلى التعلق أكثر بالحياة. ولكن ماذا عن اللحظات غير الجميلة؟ الجواب في قول أحد الفلاسفة، حيث عرَّف السعادة بأنها ليست سوى صحة جيِّدة، وذاكرة سيئة!، فما دمنا ننسى ما نمر به من مآسٍ وكوارث وأحزان، فسوف تستمر الحياة.

ذهب أحد الأثرياء المستثمرين، للسياحة في إحدى الجزر النائية الساحرة الجمال، وكان يسكن في كوخٍ على الشاطئ يراقب منه الصيادين وهم عائدون يبيعون ما اصطادوه من ثمار البحر القليلة. وقد شد انتباهه أحدهم، يذهب إلى الصيد على متن قارب صغير مع أبنائه، ويرجع بصيد قليل، سمكات معدودة، يبيع بعضها، والباقي يأخذه معه عند عودته في آخر النهار لأهله ليأكلوها معاً بهناء.

أثار هذا الصياد البسيط دهشة الثري، فأمامه هذا المحيط الكبير، ولا يصيد ويبيع إلا بضع سمكات! فزاره وسأله بعدما سلَّم عليه: لماذا لا تشتري قارباً أكبر؟ فرد الصياد بلطف: ولماذا؟ فقال الثري: لتصيد سمكاً أكثر. فرد الصياد مرةً أخرى: ولماذا؟ فقال الثري: لتتوسع في تجارتك وتبيع أكثر، وربما يصبح لديك لاحقاً معملاً لتعليب الأسماك. فرد الصياد مرةً أخرى بدهشة: ولماذا؟ فقال الثري: لتجمع مالاً وفيراً وتكون سعيداً. ابتسم عندها الصياد، ورد بلطف: ولكني يا سيّدي سعيد، فلمَ أقطع كل هذه المسافة لأبحث عن شيء أمتلكه!.

إنها القناعة، والاحتفاء بالأشياء البسيطة الجميلة التي نملكها. ففيها تكمن السعادة أيضاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.