نافذة

“الاستثمار” في الأسرة

الاستثمار في الأسرة هو “محفظة” جامعة لمجموع الاستثمارات في الفرد، تمارسه الدول ذات القيادة الرشيدة، وينفذه الأفراد في نطاقهم الصغير، وهي محفظة متنوعة بين التربية والتعليم والتقوية عبر دين متوازن، وأخلاق عالية، ومخاطر اجتماعية متدنية.

التقنية من المخاطر التي عصفت بالفرد والأسرة، في جميع أنحاء العالم، والمخاطر عادة تحدد مستويات “الأرباح”، والربح هو السيطرة على مخاطر التقنية، وأخذ إيجابياتها، وتجنب سلبياتها قدر المستطاع.

أحد ملامح انتشار التقنية لدى الأطفال، هو انزياح المركزية في التربية من الوالدين في المنزل، والمعلمين والمعلمات في المدرسة، والقدوات في المحيط الأسري الأكبر أو في الحي أو حتى في المجتمع ككل.

وتبدو مركزية الوالدين في هذا الملف هي الأهم والأخطر، وهي محل سؤال تربوي فلسفي دائم: هل هي صحيحة أم خاطئة؟ وأية درجاتها هو المناسب للحفاظ على استقرار تربوي، يقود لاستقرار أسري في ظل أمواج عاتية أحد أشرسها هو التقنية.

يخرج العالم من الاستعمار السياسي تدريجيا، إلى الاستعمار التقني، الاستعمار الذي يعيد إنتاج مفاهيم التربية لتكون أحيانا ضد التربية، ويعيد صياغة العلاقات الإنسانية إجمالا، والعلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة بشكل خاص.

لا شك أن التقنية اليوم تصنع الفارق، فهي إما أداة لصناعة فرد أفضل، ينتج أفضل عقليا وجسديا، فتزدهر الأسرة، ويزدهر المجتمع ويقوى على كل الأصعدة الاقتصادية والثقافية والبيئية طالما كان “النبات” صحيحا، جيد الساق والجذور، وسليما من الآفات. أو هي على الجهة المقابلة أداة هدم، تسيطر وتصيب الأفراد، وخصوصا الأطفال، بالإدمان وتخرجهم من دوائر الواقع الفسيح إلى دوائر “الافتراضي” الضيقة والمتناقضة، رغم أنها قد تبدو وكأنها تجعل الحياة أسهل، وهي في الحقيقة تجعلها أعقد وبالتالي أصعب على المدى الطويل.

هذا “الاستثمار” تنبهت له الحكومة السعودية في عهد رؤيتها الجميلة، فأنشأت مجلس شؤون الأسرة قبل سنوات، والمجلس نفذ الكثير، ومما نفذه بشكل لافت ومهم “منتدى الأسرة السعودية” الذي جعل دورته الثانية التي حضرتها وحضرها الكثيرون واستفادوا منها قبل أسابيع تحت أحد أهم عناوين المرحلة التنموية والاجتماعية “الأسرة والتقنية”.

في ذلك المنتدى، دار نقاش عبر عدة جلسات، أحسبه الأهم اليوم لكل أب وأم وكل متخصص ومهتم، وحتى مهموم بهذا الملف، الذي يحدد التعاطي معه، نجاح كثير من الأمم في المستقبل، تفوقها أو تخلفها، قوتها أو ضعفها، خاصة أن مفاتيح هذه الخزائن التقنية ما تزال في يدي شركات عملاقة، بدأت حتى المجتمعات التي خرجت منها هذه الشركات تضع كثيرا من علامات الاستفهام حولها!.

ربما يكون اهتمام الأم أو الأب محصورا في كيفية “السيطرة” على التدفق، على نوعيته، وعلى الأوقات التي تصرف فيه، وتلك الخشية الداخلية من الابتعاد التدريجي لأطفالهم عنهم، لكن الاهتمام على صعيد المجتمع ككل، والحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، التي منها مجلس شؤون الأسرة، يتسع ليشمل محاور متنوعة تحتاج للتعمق الذي لا يتأتى إلا بالنقاش العلمي، الذي أحسب المنتدى قدمه للناس الذي حضروا وتابعوا.

الأفكار والتوصيات التي خرجت، هي في الحقيقة مساعدة لأنفسنا، ثم للحكومة ومجلس شؤون الأسرة في نجاح الاستثمار في الأسرة السعودية، تثار الأسئلة، وتتداول بعض الإجابات، وسيظل الحوار مفتوحا في واحدة من أهم وأعقد قضايا الإنسان المعاصر اليوم.

التغيرات الاجتماعية لا تتوقف، والعالم اليوم يكاد يكون في كف كل امرئ لديه جهاز ذكي، أو حتى نصف ذكي، ومهما تجاهل البعض هذا الحضور أو هذه السطوة، تظل هي سمة هذه المرحلة من تاريخ البشرية، وقد تذهب للأسوأ، وقد يمكن لبعض المجتمعات أن تتدارك وتستثمر ما يحدث في صالحها العام، في تعليمها واقتصادها، وتنشئة أفراد أسرتها خاصة الصغار منهم على مبادئ وأفكار تميزنا، تجعل لنا خصوصية حقيقية تخلف تلك “الخصوصية” المدعاة التي استخدمت سلبيا، أو “استثمرت” من فئة محددة لأهداف باتت اليوم معروفة ومحاربة.

التقنية ليست حصانة من التخلف، وليست ضمانة للتقدم، إنها وسيلة، إذا عرفنا غايتنا منها، وعرفنا كيف نستثمرها، والحال لا تخص شعبا عن آخر، إنها حال الإنسان في عالم اليوم والغد.

أنا من أنصار “الصيام الإلكتروني” كإحدى وسائل الحماية التي أحسبها ترياقا ضد إدمان التقنية، وأنا أيضا من أنصار ومعجبي مجلس شؤون الأسرة الذي أعتقد أنه من أهم “الاستثمارات” الاجتماعية للرؤية السعودية الجميلة والتي ستؤتي أكلها مع الوقت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.