الاقتصاد القوي لأية دولة، يعني وجود حكومة رشيدة وإدارة ناجحة وشعب منتج ومتحضر، ولأن العقار هو مخزن القيمة وهو قاطرة الاقتصاد، فكان لزاما علينا البحث في آثار الأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن الوضع الصحي الحالي، والمعروف إعلاميا بجائحة فيروس كورونا المستجد COVID 19 ودراسة ما يمكن أن تسببه من تبعات وتغيرات على اقتصاديات دول الخليج بصفة عامة، والسعودية بصفة خاصة باعتبارها أهم أسواق الخليج.
السوق السعودي اعتمد على صناعة استخراج النفط لسنوات طويلة، ويدرك الجميع الآن الحاجة الملحة لتنوع مصادر الدخل وتكوين عدة اتجاهات اقتصادية وذلك لتقليل مخاطر السوق، وما يسببه الاعتماد على مصدر أساسي وحيد للاقتصاد من مشكلات، فالدول التي تعتمد في اقتصادها على صادرات النفط بصورة أساسية تتعرض لأزمات عديدة في حال انخفاض سعر النفط، وتقل لديها السيولة النقدية، وتزداد نسبة البطالة خاصة بين الشباب حديثي التخرج، وما نشهده الآن من انخفاض سعر النفط الخام خير دليل على صدق هذه الرؤية.
لكن المستقبل أفضل والمحنة إلى زوال، فوفقا لتحليلات واحدة من المؤسسات المالية العالمية المهمة وهي المجموعة السويسرية UBS سيرتفع سعر البرميل إلى ما يزيد على 40 دولارا في الخريف بمجرد نفاذ المخزون وخروج الاقتصادات الرئيسية من الإغلاق، ومما لا شك فيه أن انخفاض أسعار الذهب الأسود يجعل التحول للوقود صديق البيئة أمرا بعيدا في الوقت الراهن وهو ما يطيل عمر النفط كمصدر أساسي للطاقة ويحافظ على مكانة الدول المنتجة.
وطبقا لتصور مسئولي مركز المعلومات الخليجية الأوروبية فإن التوجه ناحية السعودية والإمارات يصبح أمرا ضروريا وحاسما إذا ما أرادت أوروبا استعادة مركزها الجيوسياسي. الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى الخليج، كما يحتاج الخليج إلى الاتحاد الأوروبي، لم يعد الأمر احتياجا لأموال الخليج كما كان، وإنما أصبحت المعادلة متساوية الطرفين، الخليج يحتاج إلى التكنولوجيا وخبرات أوروبا الاقتصادية، والاتحاد الأوروبي يحتاج دول الخليج وفى مقدمتها السعودية التي أصبحت ملاذا آمنا وبيئة صالحة للاستثمار، وهو ما يسمى في عالم الأعمال “Win-Win Business”.
ما يحدث الآن وما ستشهده المنطقة من تغييرات بعد انتهاء جائحة كورونا سيكون متسارعا ومؤثرا في كافة مجالات الحياة وستتغير الخريطة الاقتصادية بشكل غير مسبوق. ووفقا لوكالة الاستشارات الشهيرة “Falcon Advice” والتي تعاون الشركات الإيطالية على نقل أعمالها إلى الإمارات، فإنه منذ بداية هذا العام إلى فترة الإغلاق بسبب فيروس كورونا، أي في الأشهر الأربعة الأولى من 2020، تخطت طلبات الشركات الإيطالية التي ترغب في نقل أعمالها نسبة الـ %200 مقارنة بما كانت عليه في نفس الفترة من عام 2019 وتبلغ حصيلة استثماراتها حوالي140 مليون دولار، ومعظم الطلبات وردت من كيانات كبرى قادرة على إيجاد حلول وتنفيذها باستقلالية، ما يسمح لها بتحديد المكان الذي تواصل فيه نشاطها الاستثماري أو الإنتاجي، حيث لم تعد ترى مستقبلها في إيطاليا. ويبدو أن المستثمرين، في هذه الفترة أكثر من أي وقت مضى، يعانون من النظم الضريبية في إيطاليا، في الوقت الذي تغازلهم فيه دبي بالكثير من التسهيلات.
عودة إلى السوق العقاري الخليجي والسعودي، وبناء على خبرات تقارب الثلاثين عاما، خبرت خلالها الكثير عن طبيعة هذا السوق وخصائصه المالية والبشرية، يمكنني أن أؤكد أن السوق العقاري الخليجي، خاصة السوق العقاري السعودي والإماراتي سيكون الأقل تأثرا بهذه الأزمة، بل ربما يتحسن الأداء وتتسارع حركة البيع والشراء على مستوى الشركات والأفراد بعد انتهاء أزمة كورونا، وما يؤكد هذا الاتجاه أن السوق العقاري الخليجي كان أقل الأسواق تأثرا بالأزمة المالية العالمية التي حدثت في سبتمبر 2008 أو ما يسمى بالفقاعة العقارية التي بدأت شرارتها الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية، وامتدت لتشمل العديد من الأسواق العقارية في دول مختلفة من العالم.
ومن المفيد هنا أن نشرح معنى الفقاعة العقارية من حيث عناصرها وأطرافها وأسبابها والنتائج المترتبة على حدوثها حتى نستطيع رؤية المستقبل القريب بعد انتهاء أزمة كورونا ونتمكن من توقع النتائج على اقتصاديات الدول وما سيترتب عليه من تغيير ميزان القوى حول العالم.
الفقاعة العقارية في أي مكان ترتبط بعنصرين أساسيين:
الأول: تقييم الوحدة العقارية بأعلى من سعرها الحقيقي نتيجة الإقبال على الشراء وزيادة المضاربات عليها.
الثاني: التمويل البنكي المبالغ فيه للمشترين دون ضمانات مالية كافية لجهة الإقراض.
فكيف تحدث الفقاعة العقارية وتصل إلى مرحلة الانفجار الذي يؤدي إلى انهيار سريع للاقتصاد وإفلاس بنوك ومؤسسات مالية عملاقة؟
الأسباب السابقة تكون بمثابة مقدمة لنتيجة كارثية ستأتي بلا ريب، فتحديد سعر الوحدة بأعلى من سعرها السوقي الفعلي سيؤدي إلى اختلال في ميزان القيمة فإذا افترضنا أن سعر الوحدة العادل يساوى مليون ريال وتم بيعها بمبلغ 2 مليون ريال نظرا لتقييمها بأعلى من سعرها وكانت طريقة الشراء معتمدة على التمويل العقاري من البنوك، وبمجرد تحرير عقد الشراء بين المالك والمشتري يكون البنك طرفا ثالثا في عقد الشراء لكونه الممول، ويبدأ البنك في تحويل الرهن العقاري إلى سندات وأوراق مالية، وهو ما يسمى بالتوريق ويقوم البنك بالمضاربة على هذه السندات حتى يستفيد من زيادة سعرها ويحقق منها أرباحا ليستمر في تمويل مشتريين آخرين أو الدخول في مشروعات استثمارية أو صناعية، وتبدأ الفقاعة العقارية في الانفجار بتعثر المشترين وعدم قدرتهم على الوفاء بالتزاماتهم، والمتمثلة في الأقساط المستحقة للبنك الممول الذى يمتلك حق التصرف في الوحدة حال تأخر العميل عن السداد، ليكتشف البنك أن ما يملكه فعليا وهو الوحدة الضامنة للدين لا يعادل المطلوب منه من حائزي السندات، وكلما كانت أعداد المتعثرين في سداد الأقساط كبيرة، سيجد البنك نفسه في ورطة لا يستطيع مواجهتها وسيشهر إفلاسه. ويتكرر الأمر مع عدة بنوك أخرى، فينهار الاقتصاد وتحدث أزمة مالية تؤثر في شتى مجالات الحياة، أعاذنا الله.
ماذا بعد كورونا؟
ستنتهي الأزمة قريبا ـ بإذن الله ـ ولن تتوقف عجلة الحياة عن الدوران وسيبدأ الناس في التفكير بالمستقبل والبحث عن أفضل سبل الاستثمار وأكثرها أمانا. وتشهد اقتصاديات العالم تخوفات كبيرة بسبب تداعيات انتشار فيروس كورونا المستجد، وانهيار العديد من البورصات العالمية، مع تباين سعر الذهب عالميا، مما خلق حالة من التخوف لدى المواطنين في مجالات الاستثمار المختلفة، ويرى بعض الخبراء وأنا معهم أن العقار هو الاستثمار الأفضل في الوقت الحالي وفى أوقات الأزمات الاقتصادية والاضطراب بشكل عام، لكونه يتضمن امتلاك أصل ثابت لا تتراجع قيمته في أغلب الأوقات، إلا في حالة تقييمه بأكثر مما يستحق، مثلما حدث في بعض الدول وقت الأزمة المالية العالمية ـ الفقاعة العقارية ـ أما الأسواق التي تقوم بتقييم العقارات بسعرها الحقيقي نادرا ما تتعرض لأزمة انهيار أسعار العقارات.
العقار هو قاطرة الاقتصاد، إذ يرتبط به ما يزيد على ثلاثة آلاف صناعة مباشرة وغير مباشرة، كما أن العقار دائما هو مخزن القيمة الأفضل للأموال خاصة في بعض الأسواق العقارية المتميزة مثل السعودية ومصر، ذلك أنه في مصر، طبقا لبعض الدراسات والإحصائيات، ارتفع متوسط سعر العقارات في آخر عشر سنوات بنسبة تجاوزت معدل الفوائد البنكية، هذه الزيادة والفارق الكبير بين ما تقدمه البنوك من فوائد على الودائع وما يمكن أن يحققه مشتري الوحدة العقارية من مكاسب، هو ما يدفع الناس إلى شراء العقارات، وبالطبع يفضل المستثمرون السعوديون العقارات كاستثمار طويل المدى أو كمجال لادخار الأموال عن طريق سداد أقساط بدلا من إنفاق الدخل بالكامل بشكل مباشر، وأرى أن فجوة العرض والطلب ستكون واضحة وجلية بعد انقشاع الغمة الحالية وسيزداد الطلب على شراء العقارات، خاصة أن الأزمة الحالية ليست كالسابقة، والاختلاف يكمن بالأساس في تغير أنماط الشراء والعوامل النفسية التي ستقود المستثمرين السعوديين في قطاع العقارات إلى الشراء داخل المملكة وتوجههم للداخل فيما هو آت من أيام وسنوات.
وحسنا فعلت الحكومة السعودية بزيادة ضخ الأموال اللازمة للتمويل العقاري، وقد سبق أن تقدمت باقتراح أراه مفيدا ومساعدا لزيادة الإقبال على التمويل العقاري، وهو ما يؤدي إلى نشاط سوق العقارات وزيادة حركة البيع والشراء وأداء التمويل العقاري لدوره المنوط به، واقتراحي سبق وأن كتبته في أكثر من جريدة ومجلة مصرية، وقد أخذت به الحكومة المصرية ولكن بعد عدة سنوات.
الاقتراح ببساطة هو إضافة طرف رابع لعقد التمويل العقاري المكون من ثلاثة أطراف هم البائع، المشتري، والبنك الممول، فيما الطرف الرابع يكون شركة تأمين ضد مخاطر التعثر نتيجة الوفاة أو العجز الناتج عن ظروف قاهرة نظير قسط تأميني بسيط، يدفع مع أقساط الوحدة العقارية محل العقد، على أن تتولى شركة التأمين سداد باقي الأقساط عن المشتري حتى يكون مطمئنا وهو يقدم على تلك الخطوة، بحيث أنه لو حدثت الوفاة لن يترك أولاده وزوجته لمشاكل مالية وقانونية هم في غنى عنها، وبذلك سيزيد الإقبال على الشراء بنظام التمويل العقاري وستتحرك الأموال وتنشط المبيعات وينهض الاقتصاد بشكل عام.
كل هذه المتغيرات تجعل العقار مخزنا آمنا للقيمة حيث يحافظ على قيمة الأصل مقارنة ببعض الاستثمارات التي تتأثر أكثر بمعدلات التضخم، كما يتميز أيضا بكونه مصدر دخل إضافيا حال تأجيره والسهولة في إعادة بيعه مع تحقيق أرباح ليست بالقليلة.
الخلاصة أن أزمة كورونا بعد انتهائها ستكون دافعا كبيرا للسوق العقاري بالسعودية لتغيير نمط الشراء والتوجه للسوق الداخلي بدلا من لندن وتركيا وغيرها من البلدان التي طالما انتعش اقتصادها بأموال المستثمرين السعوديين. آن الأوان لضبط السوق العقاري مع ضرورة بذل المزيد من الجهد والعمل من كافة الأطراف، مطورون، مستثمرون، اقتصاديون، ورجال بنوك، حتى نرى النتائج الإيجابية والنقلة النوعية المرجوة لسوق عقاري سعودي عملاق.
ويسعدني كتابة سلسة مقالات متخصصة عن عامة، والسوق الخليجي خاصة، من حيث طبيعته، تاريخه، حاضره ومستقبله، خاصة مع رؤية المملكة 2030 باعتبارها أهم الأسواق العربية، والتي نظمها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة ولي عهد المملكة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان.
وستتضمن مقالاتي هذه دراسة مقارنة عما كانت عليه أسواق العقارات العربية مع توضيح الأسباب وما أصبحت عليه وما ينتظرها من ازدهار ونمو للمشروعات العمرانية والسياحية المزمع إنشاؤها خلال السنوات العشر القادمة، ودائما يجعل الله من قلب المحنة منحة يستغلها المبدعون والأذكياء وأصحاب الرؤية المستقبلية. ونحن لها.