الأمر بدأ هكذا: بنك يبيع جزء ما بحوزته من سندات مالية طويلة الأجل ذات الفائدة المنخفضة (لا تتجاوز %1.8 في السنة) من أجل تسيير أعماله الاستثمارية ولانخفاض معدل السيولة لديه أثر سحب بعض العملاء لودائعهم المالية لتأثر قطاع أعمالهم بحالة شبه ركود (قطاع التقنية) ورغبة البعض الأخر في تحويل تلك الودائع إلى جهات مالية تقدم نسب فائدة أعلى ولفترات زمنية أقصر (بعض البنوك الأمريكية لم تواكب الفيدرالي الأمريكي في رفعه لأسعار الفائدة للفترات القصيرة).
محصلة هذه الظروف ولزيادة زخم سحب الودائع يعلن البنك عن حاجته لبيع أسهم إضافية لتوفير مزيد من النقد لديه! هذه النقطة الأخيرة أثارت مخاوف المودعين بالإجمال حول ملاءة البنك المالية واحتمالية تخلفه عن سداد مستحقاتهم لتزداد وتيرة طلبات سحب الودائع أكثر وبالتالي يعلن البنك عن عدم استطاعته تلبية مسيرة تلك السحوبات لينهار سهمه في السوق ويعلن إفلاسه!
هذا بإيجاز ما حصل لبنك سيليكون فالي الأمريكي (svb) وتبعه انهيار بنك سيجنتشر (Signature Bank) تأثرًا بمثل هذه الظروف، والأزمة المالية طالت بنكي فيرست ريبابليك وكريدي سويس وسبق كل تلك البنوك بالطبع تصفية بنك سيلفرجيت الذي يخدم صناعة العملات المشفرة.
الأزمة المالية في القطاع المصرفي الأمريكي “دفينة وليست مستجدة” ولا يتعلق سببها الرئيس بنقص السيولة إنما بنواحٍ فنية متكررة تتعلق بتبعات تقلبات السياسة المالية والنقدية لأمريكا وأثرها على الاقتصاد والتي أدت إلى تراكم الأعباء على البنوك التجارية (وكذلك بعض الشركات) أثر التخمة من عمليات الاقتراض التي قامت بها أوقات ما كانت أسعار الفائدة منخفضة جدًا وبضمان سنداتها الطويلة الأجل ذات العائد المنخفض (سندات خزانة أو سندات مدعومة من الحكومة أسعارها تتأثر عكسيًا مع أسعار الفائدة) وبالتالي تحمل ضريبة أسعار الفائدة حال رفعها في ظل حالة انكماش اقتصادي والتي غالبًا ما تكون النتائج على شكل انتكاسات أو حالات إفلاس في القطاع المالي.
يحاول مجلس الاحتياطي الفيدرالي مؤخرًا معالجة الزيادة في معدل التضخم من خلال رفع معدل أسعار الفائدة (آلية تقليدية لمعالجة الأعراض مؤقتًا دون المسببات) والتي تعني التأثير سلبًا على معدل النمو في الاقتصاد (الدخول ربما بحالة ركود قاسي) واحتمالية التضحية أيضًا ببعض المؤسسات المالية التي لا تستطيع أن تواكب مرحلة المعالجة! وطالما أن العقبة المتعلقة بقطاع الائتمان والسندات المسمومة التي يتم الاقتراض بموجبها قائمة فلن تحل أصل المشكلة، بل ستتكرر تباعًا!
يستغرب بعض المراقبين سياسة الفيدرالي الأمريكي كونه حاول حماية القطاع المالي الأمريكي من الانهيار الكلي عام 2008م من خلال ما عرف بالتيسير الكمي (ضخ مئات المليارات من الدولار الإلكتروني في حساب خاص للبنوك التي تم شراء السندات المتعثرة منها وهي محاولة لحفظ قيمة تلك السندات وإنقاذ تلك البنوك في آن واحد) وما صاحبه من خفض حاد لأسعار الفائدة لإنعاش الاقتصاد وكلا هاتين الخطوتين شكلا رافدًا لزيادة معدل التضخم في المستقبل (الذي يتم محاربته حالياً) وترحيل المشكلة الأساسية لوقت أخر (اللعبة تكمن في تدوير تدفق السندات التي تصدرها وزارة الخزانة باستمرار أو السندات المدعومة منها – ليقوم الفيدرالي الأمريكي بدوره بتشجيع المؤسسات المالية على شرائها كونها ستكون ورقة الضمان لطلب أي قرض لاحق منه)!
وربما حدة الاستغراب تزداد حينما نعلم أن الفيدرالي الأمريكي في محاولته الأخيرة للحد من اتساع أزمة بنك سيليكون فالي وانتقالها إلى بنوك أخرى (الدومينو) قد قام بخطوة مشابهة لما قام به عام 2008م! وذلك بدعم القطاع المصرفي مجددًا من خلال برنامج الإقراض الطارئ (BTFP) وبضمان الأوراق المالية – سندات طويلة الأجل عادة – والذي يخول الفيدرالي الأمريكي ضح ما يقارب 2 تريليون دولار في القطاع المصرفي وفقًا لـ”JPMorgan” وحسب تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ فأن حجم الاقتراض للبنوك الأمريكية من الاحتياطي الفيدرالي بعد انهيار بنك سيليكون فالي بلغ (164.8 مليار دولار)، وهو ما يشي بحجم المشكلة وضبابية الحلول وتناقضها في آن واحد!
وقفة:
معضلة الاقتصاد العالمي والأمريكي بوجه خاص تتمحور حول زيادة أعباء القروض (الفوائد) وتراكمها وهي إفراز طبيعي لما يسمى بتوليد المال من المال وما أصاب القطاع المالي الأمريكي خلال السنوات الأخيرة ما هو إلا نوبات تحذيرية لـ “جلطة” مالية تلوح في الأفق.