تقسيم الثروة في الجيل الثالث على عدد كبير من الورثة، قد يؤدي إلى تشرذم الثروة وخروج البعض، ومن ثم التدهور وربما انهيار الشركة
لا يجب تحميل أبناء الجيل الثالث المسؤولية بتدهور ثروات العائلية وإلقاء الاتهامات عليهم دون غيرهم، نظرًا للطبيعة الداخلية المعقدة للثروات العائلية، وهو ما يؤثر بشكل كبير على فرص النجاح والاستمرار؛ فإنه وفقًا لأغلب الإحصائيات والتقديرات ثمة من 5% إلى 15% فقط من الثروات العائلية التي تستمر حتى الجيل الثالث، فيما يؤكد التقييم السنوي للأعمال التجارية الصادر عن جامعة هارفارد عام2021م أن 70% من الشركات المملوكة لعائلات تنهار بوصولها إلى الجيل الثالث.
الرغبة في الاستقلالية من الجيل الثالث
فعلى خلاف الجيل الأول، وهو الجيل الذهبي والمؤسس، والذي يتصف بالإصرار والريادية والإقدام على المغامرة، والتركيز على هدف التوسع والنمو، وعلى خلاف الجيل الثاني، وهو جيل الأبناء، والذي يتصف برغبته وسعيه للحفاظ على المؤسسة أو الشركة ببذل كل الجهد، وخاصة أنه رأى وعايش وعاصر ما عاناه المؤسس من صعوبات وتحديات، فإن الجيل الثالث، الذي وجد الأموال والنجاح ولم يعاصر كفاح المؤسسين ولا الصعوبات التي واجهتهم، قد تكون له أفكار وأهداف مختلفة، وقد تكون لديه الرغبة في الاستقلالية والعمل في تخصص ربما يكون قد تعلمه أو استهواه.
العلاقة المعقدة داخل الشركات العائلية
لا شك أن كافة الشركات، سواء كانت عائلية أو غير عائلية تواجه صعوبات وتحديات تتمثل في كيفية الإدارة وتنظيم العمل، والمنافسة في السوق، وغيرها، وبالإضافة إلى تلك التحديات، فإن الشركات العائلية تواجه تحديات أخرى، بسبب العلاقة المعقدة في تلك الشركات، الأمر الذي قد يؤدي إلى تدهور الشركة وتراجع نجاحها، وقد تنهار إذا لم يتم التعامل بفاعلية ومهارة ومؤسسية وبشكل ممنهج وبهيكلية محددة، مع تلك المشكلات والتحديات، وبشكل عام، فإن تدهور الشركات العائلية مع وصول الجيل الثالث يُمكن إرجاع أسبابه إلى عدد من المشكلات والصعوبات والتحديات، ومن أبرزها ما يلي:
- مع الوصول للجيل الثالث، يصبح هناك عدد كبير من أفراد الأسرة لديهم صلاحيات واسعة وطموحات مختلفة ومتنوعة وربما استراتيجيات متضاربة، وهو ما قد يفوق قدرة الشركة ويتسبب في خلافات ونزاعات.
- اختلاف أفكار ومهارات وتعليم وطموحات أبناء الجيل الثالث عن الأسس والسياسات والأهداف، التي دشن على أساسها المؤسسون الشركة العائلية.
- تقسيم الثروة في الجيل الثالث على عدد كبير من الورثة، قد يؤدي إلى تشرذم الثروة وخروج البعض، ومن ثم التدهور وربما انهيار الشركة.
- عدم الخبرة أو عدم المعرفة بمجال العمل، فمع رحيل المؤسس، غالبًا يتولى الأخ الأكبر، القيادة، دون النظر إلى إمكانياته ومؤهلاته وكفاءته، ولأسباب تتعلق بالعرف والعادات والتقاليد.
- عدم قيام الجيل الثاني بإعداد أبناءهم من الجيل الثالث لتولي المسؤوليات القيادية والإدارية في الشركة، ومن ثم عدم استيعاب الأجيال الجديدة لرسالة الشركة ورؤيتها.
- سياسات التوظيف لأفراد العائلة، من خلال التعيين على أساس صلة القرابة والثقة وليس الكفاءة والخبرة.
- عدم وضوح المهام والمسؤوليات ولا الأدوار والصلاحيات، بين الأبناء أو بين الأحفاد وبعضهم البعض.
- مع وصول الشركة للجيل الثالث، ووفاة المؤسس، قد تنشب الخلافات والصراعات لعدم وجود مرجعية واضحة، تُحدد مهام وحقوق كل منهم، ويرتبط بذلك غياب الاستراتيجية العامة والميثاق العام، الذي تقوم عليه الشركة، والذي يتم الرجوع إليه في حالة حدوث أي خلاف، ويمنع سير الأمور بطرق عشوائية أو وفقًا لميول وأهواء شخصية.
- عدم فصل أفراد العائلة بين حياتهم الشخصية والمهنية، ففي حالة الخلاف بين أفراد الأسرة في حياتهم الشخصية قد ينتقل الخلاف إلى الشركة والعكس أيضًا.
الشركات العائلية متشابهة في مشاكلها
بدايةً، من أجل التغلب على التحديات، التي تواجه الشركات العائلية مع وصولها للجيل الثالث، يجب على أبناء تلك الشركة، وأصحاب القرار فيها أن يدركوا أن التحديات، التي تواجههم هي تحديات تواجه كل الشركات العائلية في مختلف أنحاء العالم، وليست حكرًا على دولة أو قارة بعينها، أو على مجال أو نوع معين من الأعمال، لأن الشركات العائلية حول العالم تعاني في معظمها من مشاكل متشابهة.
وتبرز أهمية هذا الوعي والإدراك، في ظل أنه سيكون بداية هادئة وعقلانية للتعامل بهدوء وببساطة وبدون انفعالات أو إلقاء للاتهامات، ومن خلال التفاهم والرقى، وصولاً إلى سبل مواجهة التحديات والتغلب على المشكلات، التي تواجه شركاتهم العائلية، والتي يمكن أن تنقذها من التدهور، خاصةً مع الوصول إلى الجيل الثالث، ولعل أبرز هذه السبل ما يلي:
- تدشين سياسة للخلافة واضحة، والتخطيط لبديل لكل شخص يشغل وظيفة مهمة في الشركة، وترتيب العلاقة بين أفراد العائلة بسياسات مقبولة وعادلة، من خلال وجود دستور أو ميثاق للعائلة يحتوي على قيم ورسالة ورؤية.
- إدارة الصراع على السلطة والإدارة هو أحد أكبر التحديات، وهو ما يتطلب وضع أسس وأدوات في دستور أو ميثاق العائلة لحل النزاعات وديًا وداخليًا بين الشركاء، لأن نقل النزاع إلى القضاء قد يتسبب في قطع العلاقات بينهم وتوقف نشاط الشركة والحكم بتصفيتها.
- ابتكار قنوات اتصال وتواصل تجعل أفراد العائلة قادرين على توصيل أفكارهم واقتراحاتهم لإدارة الشركة ولبعضهم البعض.
- مؤسسية العمل، من خلال إنشاء وحدات وإدارات لها مهام وصلاحيات واضحة، مثل مجلس الإدارة والإدارة العليا والإدارة التنفيذية والمجلس الاستشاري، فعلى الرغم من أنه مجلس اختياري إلا أنه قد يكون همزة الوصل بين العائلة ومجلس الإدارة، خاصةً أن هذا المجلس من المفترض أن يمتلك الخبرات والمهارات والحكمة.
- حوكمة العمل، من خلال تحديد العلاقة والخطوط الواضحة والفاصلة بين الملكية والإدارة والموظفين، وتنظيم الحقوق والواجبات بين المالكين من أبناء العائلة وبعضهم البعض، وما بين العائلة والمساهمين والموظفين.
- العمل التدريجي على فصل الملكية عن الإدارة، وذلك بتعيين رئيس تنفيذي تتوافر فيه الخبرات اللازمة والثقة، ويتمتع بصلاحيات إدارية ومالية وتسويقية وفق أسس مهنية معينة، ويندرج ضمن ذلك فصل الأموال الشخصية للشركاء في الشركة العائلية عن أموال الشركة، بإنشاء نظام محاسبي دقيق لضمان عدم حدوث اضطراب مالي بسبب خلط مال الشركة بأموال الملاك.
- يتطلب كثرة الأحفاد في الجيل الثالث، وضع آلية لدخول الشركاء الجدد الورثة، ولكيفية إعادة توزيع حصص الملكية، وعلى أسس من العدالة والشفافية في الإفصاح عن المعلومات للشركاء الجدد.
- إدارة الشركات العائلية بطريقة مهنية والبعد عن العواطف والمجاملات قدر الإمكان وعقد الاجتماعات بصورة دورية وبشكل رسمي وتسجيل محاضر لتلك الاجتماعات ولتوصياتها وقراراتها.
- تحديد سياسة توظيف واضحة، تسري على كل الموظفين والعاملين، للتغلب على مشكلة الانتماء لدى الموظفين من خارج العائلة.
- حتى لو كان عدد أفراد العائلة وذويهم كبيرًا، فإن أي شركة يجب أن تستقطب الكفاءات والمهارات من خارج العائلة لضمان استمرارية العمل والنجاح.
- يمكن أن يكون إدراج الشركة العائلية في البورصة هو أحد سبل الحفاظ على استمرارية الشركة وحمايتها والانتقال السلس للملكية والتخارج لمن أراد التخارج وفتح آفاق تمويل جديدة وجذب مستثمرين محليين ودوليين.
- يتيح الإدراج أيضًا للشركة درجة كبيرة من الشفافية والحوكمة والانضباط المالي والحماية من التعثر، من خلال التزامها بالقواعد التي تحددها هيئة الأسواق، وخاصةً فيما يتعلق بإعداد الميزانيات وتدقيقها من مراقبي حسابات وفقًا للمعايير الدولية، والإفصاح عنها دوريًا.
وأخيرًا، فإننا يجب أن ننظر لمشكلة انهيار أو تدهور الثروات العائلية، وفقًا لتقييمات عادلة، وليس بتحميل أبناء الجيل الثالث المسؤولية وحدهم وإلقاء الاتهامات عليهم، لأن الأمر قد لا يتعلق بتعليمهم ومهاراتهم وخبراتهم، ولا بسعيهم ورغبتهم في العمل واستمرار النجاح، ولكن الأمر يرتبط أكثر بوجود بيئة صحية داخل الشركة تكفل النجاح، ووجود أنظمة وقوانين وقواعد تحدد الأدوار والمهام، وكذلك مرونة الشركة وقدرتها على التأقلم مع التحديات الخارجية، فلم يعد العالم من حولنا مثل الماضي، وأصبحت التغيرات متسارعة، سواء كانت تقنية أو تكنولوجية أو تنظيمية أو بيئية أو غيرها.