نفط

ليس منافساً للبترول “التقليدي”
“الصّخري” رافد مهم للإنتاج السعودي

لا منافس للبترول التقليدي.. وارتفاع سعره يدفع للتوجه للصخري

د. أبو العلا: البترول الصخري مصدر رئيسي للطاقة من 2020/2070

الصخري يتم اكتشافه بالصدفة.. وعملية  «السيزموجراف» للبترول التقليدي

1.5 تريليون برميل احتياطي الصخري عالميا.. وروسيا تمتك 70 بليونا

لم يكن مُفاجئاً بالمرّة.. فإنتاج البترول الصخري عرفته الولايات المتحدة، ووجوده معروف لدى المتخصصين من الجيولوجيين ومهندسي البترول منذ زمن طويل. أما تكنولوجيا إنتاجه: الحفر الأفقي وعملية التكسير الهيدروليكي، فهما معروفتان من عشرات السنين. وأول عملية تكسير هيدروليكي أجريت عام 1947م. وقد استخدمت أرامكو الطريقتين قبل أكثر من ثلاثين عامًا من بدء إنتاج النفط الصخري الأمريكي، في منتصف العقد الأول من القرن الحالي.

نفذت أرامكو في أوائل السبعينات الميلادية، عملية تكسير هيدروليكي في جزء محدود من حقل الغوار العملاق، لرفع إنتاج طبقة جيرية كانت صلبة وقليلة النفاذية. واستخدمت حينها مع الماء مادة حمضية لتسهيل فتح مسام الصخور الجيرية. وفي عام 1989، استخدمت لأول مرة الحفر الأفقي في حقل البري، وهما المميزتان لعملية حفر وإنتاج النفط  الصخري. أما السبب الرئيسي لعدم إنتاج «الصخري» إلا حديثًا، فكان العامل الاقتصادي، لارتفاع تكلفة استخراج النفط، عندما اقترب سعر البرميل من 100 دولار، حيث حان وقت مغامرة تجربة إنتاج الصخري التي تكللت بالنجاح.

نبوءة د. أبو العلا

«خلال الأعوام 2020/2070م سيكون البترول الصخري هو المصدر الرئيسي للطاقة، للتعويض عن نضوب وارتفاع تكاليف استخراج المتبقي من البترول التقليدي». الفقرة السابقة منقولة من رسالة الدكتوراه للاقتصادي المخضرم الدكتور أنور أبو العلا، كان قد تقدم بها في منتصف الثمانينات الميلادية، قبل أن يسمع العالم عن «الصخري» بعشرين عامًا، وبصرف النظر عن دقة المضمون، فقد كان من النادر حينها أن نسمع عن شيء اسمه البترول الصخري خلال السنوات التي سبقت إنتاجه، وتلك بادرة تُحسَب للدكتور أنور ـ يحفظه الله.

كانت تكلفة إنتاج برميل الصخري الأمريكي في أولى مراحل إنتاجه في حدود 80 دولارًا للبرميل. وقد طرأ على عملية الحفر والإنتاج خلال السنوات الماضية، تحسن ملحوظ في الأداء، نتيجة الخبرة والممارسة، وليس بسبب تطور التكنولوجيا كما يظن بعض المحللين، مما ساعد على تخفيض تكلفة الإنتاج. وهناك انطباع سائد بأن تكلفة إنتاج الصخري ستنخفض حتى تقترب من تكلفة التقليدي الحالية. وهذا غير صحيح على الإطلاق، فالصخري سيظل صخريا ومكلفا. ولا يمكن مقارنته بإنتاج التقليدي لا من حيث التكلفة، ولا كمية وعمر الإنتاج. فكون وجوده داخل مسام مغلقة تتطلب عملية تكسير هيدروليكي مكلفة، لن يغير ذلك من طبيعته.

وعندما نتحدث عن تكلفة الصخري بوجه عام، فالمقصود تكلفة بداية إنتاج البئر. وما بعد ذلك، فالتكلفة ترتفع طبيعيًّا مع النضوب، سواء كان الحقل تقليديا أو صخريا، وسبب ذلك، انخفاض كمية الإنتاج مع مرور الوقت. وللعلم فقد تتساوى تكلفة الصخري مع التقليدي مستقبلاً عندما ترتفع تكلفة إنتاج البترول التقليدي بسبب قرب النضوب، وهو أمر طبيعي، أي أن تكلفة التقليدي هي التي سوف تقترب صعودًا من تكلفة إنتاج الصخري، وليس العكس.

ومن نافلة القول أن نذكر أن معظم شركات إنتاج «الصخري» في أمريكا اليوم، ما تزال تعاني من ندرة السيولة، رغم كل ما يتردد في وسائل الإعلام على العكس من ذلك. هذا الاستنتاج لا يشمل شركات الحفر والخدمات المساندة والقوى العاملة التي تستلم حقوقها كاملة، وإنما فقط شركات الإنتاج التي تستدين معظم رؤوس أموالها من المصارف المالية. لكن لا يجب إغفال حقيقة أن إنتاج الصخري في أمريكا إضافة إيجابية للاقتصاد الأمريكي. فقد وفر لأمريكا توريد كميات كبيرة من خام البترول وأوجد مئات الألوف من الوظائف التي هم بأشد الحاجة لها، كما شغل آلافا من قطع معدات الحفر ومعدات الضخ والنقل التي كانت مخزنة لزمن طويل لعدم الحاجة إليها.

البترول الصخري.. والصخر البترولي

والبترول الصخري ـ كما تسميه وسائل الإعلام ـ ليس زيتًا صخريًّا كما يتبادر إلى الذهن من أول وَهْلة بسبب تسميته، لكنها ترجمة خاطئة من الأصل الإنجليزي Shale oil  التي تحولت لاحقًا إلى Tight oil، وهو الاسم الأنسب والأعَمْ، ومن باب أولى أن نسميه بترول أو زيت السجيل Shale oil أو زيت الصخور الصماء.

وكلمة الصخري المتبعة في جميع الكتابات العربية، تشير إلى وجود بترول عادي محبوس داخل مسام صخور رسوبية صماء، أي فراغات ميكروسكوبية مغلقة، لا تواصل بينها. بينما البترول العادي، أو التقليدي، يوجد داخل مسام الصخور الرسوبية الميكروسكوبية، لكن بين المسام منافذ متصلة مع بعضها تسمح للسوائل البترولية والغاز بالتسرب والجريان من منطقة إلى أخرى. وما نسميه بالبترول الصخري، بصرف النظر عن طريقة وصعوبة استخراجه، فهو يماثل تمامًا، من حيث التركيب والخصائص الكيماوية، البترول التقليدي الخفيف، خاصة بترول حقل الحوطة الواقع جنوب الرياض.

وعلينا عدم الخلط بين البترول الصخري، موضوع حديثنا، وبين ما يسمى بالصخر البترولي. البترول الصخري شرحنا طبيعته وشكله سابقا. أما الصخر البترولي، فهو يتواجد في الطبيعة على الحالة الصلبة فوق أو قريب من سطح الأرض، مختلط مع الصخور بنسبة تقارب %10 بمادة عضوية تسمى كيروجين. وتتحول مادة الكيروجين مع الصهر إلى بترول، وإنتاجه لا يحتاج إلى حفر آبار بل مجرد عملية تعدين. فهم يستخدمون جرافات لتجميعه ومن ثم نقله بواسطة قلابات عادية كبيرة الحجم إلى معامل الصهر لإذابة الصخور تحت درجة حرارة عالية واستخلاص المادة البترولية منه. ونسبة كبيرة من احتياطي الصخر البترولي الموجود في العالم، ربما يقارب 1.5 تريليون برميل، يوجد في ولاية كلورادو الأمريكية وحدها. وتوجد كميات أقل في بلدان أخرى كثيرة، منها المغرب العربي والأردن، وإنتاجه حاليًّا غير مجدٍ اقتصاديًّا عند الأسعار الحالية، أو حتى ضعفها. والصخر البترولي يشبه إلى حد كبير الرمل البترولي الذي تنتج منه كندا اليوم ما يزيد على مليوني برميل يوميا، فكلاهما تكوينه ووجوده عند سطح الأرض، وإنتاجه عن طريق الصهر تحت حرارة عالية، ومن شروط السماح بإنتاج هذين النوعين إعادة الأرض، بعد انتهاء إنتاجه، إلى طبيعتها الأصلية، وهي عملية مكلفة بحد ذاتها.

ويتم إنتاج البترول الصخري عن طريق إحداث شقوق تحت الأعماق في الصخور الحاملة له، في عملية معقدة ومكلفة تسمى، عملية التكسير الهيدروليكي. وكلمة الهيدروليكي تشير إلى استخدام الماء في العملية. يضخ في البئر الواحدة ما يصل إلى خمسة ملايين جالون من الماء تحت ضغط مرتفع جدًّا، مع خليط من الرمل ومواد كيماوية. فيسبب ذلك خلخلة في طبقات الصخور الصماء ينتج عنها إحداث شقوق تسمح بانتقال السوائل المحبوسة باتجاه البئر. والغرض من وجود الرمل في العملية هو سقوط حبيباته داخل الشقوق لتبقيها مفتوحة بعد إزالة الضغط عنها. ويحدث أحيانًا في موقع الحفر عملية زلزال بسيطة محلية أثناء إجراء عملية التكسير. ولذلك فإن بعض الدول لا تسمح باستغلال البترول الصخري بسبب هذه الظاهرة. كما أن هناك أيضا احتمال تلوث المياه الجوفية والهواء المحيط ببئر الصخري، إذا لم تُتخذ احتياطات كافية وصارمة، وفي بعض البلاد التي لديها بترول صخري، لا يكون الماء متوفرًا بالكميات المطلوبة، مما قد يرفع تكلفة الإنتاج بنسبة كبيرة.

وعملية التكسير الهيدروليكي تأتي بعد حفر البئر وإحداث فتحات مقابل طبقة الإنتاج. ورغم ضخامة وكثرة المعدات المستخدمة، والتي قد تصل إلى 15 مضخة كبيرة وعدد من الصمامات وخزانات المياه والمركبات، تكون فعالية العملية حول محيط البئر محدودة المساحة، فالشقوق التي تكونها عملية التكسير ربما لا يتعدى طول قطرها عشرات الأمتار، وهذا يعني أن كل بئر صخري تمثل حقلا صغيرا مستقلا بذاته عن بقية الآبار ومحدود المساحة والحجم. ولا يوجد تواصل بين آبار حقل الصخري كما في حال الحقول التقليدية، لذلك فإن إنتاج بئر الصخري ينخفض بنسبة %70 خلال السنة الأولى من عمرها القصير نظرًا لمحدودية المساحة، وذلك لأن بداية الإنتاج تكون من المنطقة المحيطة مباشرة بالبئر والأكثر تأثرًا بعملية التكسير. ومن ثم يستمر انخفاض الإنتاج خلال السنوات القليلة التي تلي حتى يصبح غير اقتصادي.

لا منافس للبترول التقليدي

يتخيل البعض أن البترول الصخري، ثورة في عالم البترول، وسوف ينافس البترول التقليدي، لكن العكس هو الصحيح، فالبترول الصخري لا يعدو كونه رافدًا مهمًّا لإنتاج البترول في السعودية. ولو عدنا إلى السنوات الماضية، منذ ظهور إنتاج الصخري الأمريكي حتى يومنا هذا، سوف نجد أن المسؤولين في السعودية، على كافة المستويات، لم يتطرقوا في تصريحاتهم الخاصة والعامة إلى إنتاج الصخري الأمريكي بأية ملاحظات سلبية. فهم يدركون تمامًا أن الصخري لا ينافس التقليدي. والسبب، أنه جاء في وقت كانت فيه السوق البترولية بحاجة إلى مزيد من الإمداد. ولولا الله ثم إنتاج البترول الصخري لاضطرت السعودية إلى رفع مستوى إنتاجها لتلبية الطلب العالمي المتصاعد ـ كوننا المنتج المرجِّح ـ ربما إلى 13 مليون برميل يوميًّا، وهو ما يمثل بالنسبة لها كارثة إنتاجية تضر بحقولها وبمستقبل أجيالها لو حدث ذلك.

لذلك فمن المنطق أن نقول إن نمو إنتاج الصخري الأمريكي كان بالنسبة للسعودية نعمة من الله وليس نقمة. ولك أن تتصور ماذا سوف يحدث للسوق البترولية اليوم لو اختفى من الساحة 8 ملايين برميل، وهي كمية الصخري المعروض حاليًّا! حتمًا سوف ترتفع الأسعار إلى عنان السماء، ولن نجد ما يملأ الفراغ الناجم عن اختفاء هذا الكم الكبير. هذه الظاهرة اليقينة لا أحد يتحدث عنها. تسمع الكثير عن نمو إنتاج الصخري وتأثيره على الأسعار ولا أحد يتحدث عما يمكن حدوثه لو لم يكن موجودًا.

ويختلف البترول الصخري عن التقليدي اختلافًا جذريًّا من حيث طريقة وجوده داخل الطبقات الصخرية التي يتم اكتشافه فيها. فالصخري يتواجد في المكان والموقع نفسه الذي كان أصلاً قد ترسَّب فيه قبل مئات الملايين من السنين، لعدم استطاعته الهجرة إلى طبقات أخرى بسبب كون مسام الصخور التي تحويه مغلقة، كما أسلفنا. أما البترول التقليدي فأغلبه، إن لم يكن كله، نجده في أماكن بعيدة عن أماكن تكوينه الأصلية، داخل مصائد حفظته لنا أو بعضًا منه إلى يومنا هذا، بعد أن تسرب إليها عبر طبقات الصخور المنفِّذة وخلال مئات الملايين من السنين. والمصائد، أو المكامن كما يسمونها، عبارة عن طبقات صخرية محدبة وعلى شكل قباب تعلوها طبقة صخرية شبه صماء لا تسمح للبترول والغاز بالهروب من خلالها. وهذه الطبقات التي على شكل قباب كبيرة، من المتيسر معرفة وجودها وأعماقها بواسطة عملية الرصد الزلزالي الذي يسبق عملية الحفر، او ما يسمى بالسيزموجراف. وهي عملية بسيطة، عبارة عن إرسال موجات صوتية من فوق سطح الأرض باتجاه أعماق طبقات الصخور الأرضية، بحيث يعود صدى الموجات إلى سطح الأرض كلما لامس أو اصطدم وهو في نزوله طبقة تختلف عن الطبقة التي قبلها. وتلتقط مسجِّلات خاصة، يضعونها فوق سطح الأرض، حركة ارتداد الصوت، فتعطي القراءة معلومات هائلة عن شكل وتركيب الطبقات الأرضية، بما في ذلك شكل وعمق الانحناءات التي تؤكد وجود مكامن البترول. وعلى أساسها يبدأ الحفر للتأكد من وجود المواد الهيدروكربونية. وبدون الحفر لا نعلم شيئًا عن وجود البترول من عدمه.

استخراج البترول الصخري

ما قدمناه سابقا عن طريقة اكتشاف البترول التقليدي، هو مدخل لنبين طريقة اكتشاف البترول الصخري، فالصخري يكون غالبًا متواجدًا داخل مسام طبقة صخور مستوية، مما يجعل اكتشافه عن طريق عملية السيزموجراف صعبة، أو ربما شبه مستحيلة، لذلك فاكتشاف الطبقات الحاملة للصخري، إما أن تكون عن طريق الصدفة أو أثناء حفر آبار البترول التقليدي.

أيضا فإن تحديد أبعاد الطبقات الحاملة للصخري يحتاج إلى حفر عدد كبير من الآبار، ومن ثم تقدير الاحتياطي الموجود القابل للإنتاج، وعادة نسبة استخلاص الصخري تكون متدنية، مقارنة مع الحقول التقليدية، نظرًا لصعوبة اكتساح كامل المنطقة المحيطة بالبئر. خاصة أن نسبة الاستخلاص لا تزيد على %15 كحد أعلى. ويلاحظ قرب آبار الصخري من بعضها وذلك ضرورة قصوى من أجل إنتاج أكبر كمية ممكنة من الحقل.

وسيخيل للناظر في نهاية عمر حقل الصخري أنه وسط مزرعة نخيل، لقرب الآبار من بعضها، في الجيل الأول من الآبار، وبعد تغطية كامل المساحة يبدؤون في حفر آبار الجيل الثاني، بين مواقع الجيل الأول، وقد يعودون لحفر جيل ثالث من الآبار في الموقع نفسه إذا كان ذلك اقتصاديًّا.

وإنتاج بئر الصخري يقل كثيرًا عن إنتاج البئر التقليدي، وهذه نقطة مهمة بالنسبة لفهم طبيعته، فبئر واحدة من آبار السعودية ـ على سبيل المثال ـ يعادل إنتاج ما بين 10 إلى 20 بئرا من البترول الصخري الأمريكي. وعمر بئر الصخري الاقتصادي قد لا يزيد على 4 سنوات، بينما إنتاج البئر التقليدي في الغالب يستمر من 20 إلى 30 سنة. واللافت للنظر، أن إنتاج بئر الصخري تفقد ما يقارب من %70 من إنتاجها خلال السنة الأولى وحدها، ويستمر في الانخفاض حتى يصبح الإنتاج غير مجدٍ اقتصاديًّا بعد سنوات قليلة. لذلك فإن إنتاج الصخري يتطلب على الدوام حفر آبار جديدة إذا أرادوا المحافظة على مستوى إنتاج معيَّن. إذ لابدَّ من إضافة ما بين 30 إلى %40 من الإنتاج سنويًّا لإبقائه عند المستوى الحالي، وما زاد على ذلك يكون من نصيب رفع مستوى الإنتاج، وهذه من العوامل التي تساهم في رفع تكلفة الإنتاج الصخري، ومن المتوقع، غالبًا، أن ينطبق ذلك على مصادر الصخري المستقبلية خارج أمريكا.

مستقبل إنتاج الصخري

أولاً الصخري لا يعتبر منافسًا للتقليدي تحت أي ظرف من الظروف خلال العقدين القادمين على الأقل لسببين، كونه أكثر تكلفة، وكميات إنتاجه أقل بكثير من معدل إنتاج حقول التقليدي. وقد اكتسب الصخري شهرته من كونه ظهر أولاً في أمريكا، مما منحه خاصية لا تتوفر إلا فيها، فالبترول في أمريكا يملكه صاحب الأرض وليس الدولة. ومعظم الملاك يؤجرون أراضيهم لشركات البترول التي تقوم باستغلال الثروات الطبيعية مقابل عقد بين الأطراف المعنية. وإنتاج البترول بالنسبة لهم لا يعدو عن كونه عملية استثمارية، فتجدهم يتقبلون أي مردود اقتصادي مهما كان ضئيلاً، ولذلك نشاهد اندفاع الشركات الأمريكية من كل حدب وصوب لإنتاج البترول الصخري، بما يشبه «الجولد رش Gold rush»، أو الهجرة نحو مناجم الذهب الذي شهدته أمريكا قبل 170 عامًا في ولاية كاليفورنيا، ولم يدم جمع الذهب أكثر من سبع سنوات، وانتهى بسبب اندفاع مئات الألوف من البشر إلى المكان، وها هم اليوم يعيدون الكرَّة مرة أخرى مع البترول الصخري وبالأسلوب والطريقة نفسها.

وما يميز أمريكا عن غيرها من البلاد التي لديها بترول صخري، توفر المال وتسهيل القوانين البيئية ووجود قوى بشرية مدربة وجاهزة للعمل وآبار غير عميقة نسبيًّا، مقارنة مع معظم آبار مناطق العالم. أضف لذلك خبرة حفر ما يقارب من 1.5 مليون بئر صخري في الأراضي الأمريكية، مما سهل عليهم تطوير عملية الحفر. ناهيك عن وجود آلاف الحفارات والمعدات الثقيلة ووسائل النقل التي كانت تحت التخزين تنتظر التشغيل. تلك المميزات، إضافة إلى المنافسة الشرسة بين مختلف الأطراف على الساحة الأمريكية، ساعدت على تخفيض التكاليف ومكَّن من نمو إنتاج الصخري إلى مستوى فاق جميع التوقعات. حيث بلغ الإنتاج رغم صعوبته وتكلفته العالية أكثر من ثمانية ملايين برميل، وما يزال يرتفع ولكن بوتيرة أقل، ومن المحتمل وصوله الذروة خلال السنوات القليلة القادمة بسبب هذا الاندفاع الهائل. وللعلم فإن شركات إنتاج الصخري في أمريكا تحفر سنويًّا من 15 إلى 20 ألف بئر، ومعظم إنتاج الآبار الجديدة يستخدم لتعويض الإنتاج المفقود خلال السنة التي قبلها، وما يتبقى يكون إضافة جديدة لمجمل مستوى الإنتاج، وهذا يفسر لنا تجييش أمريكا لما يقارب من ألف حفار لدفع إنتاج الصخري إلى المستوى الحالي، بما لديها من إمكانات لا تتوفر لغيرها.

عامل التكلفة

أما خارج أمريكا الشمالية، فإن إنتاج البترول الصخري يتطلب تقريبًا ضعف التكلفة الأمريكية الحالية، لأسباب جوهرية جيولوجية ولوجستية. ففي معظم البلاد الأخرى آبار الصخري تكون أكثر عمقًا من الآبار الأمريكية، وتكلفة جلب معدات الحفر وتأجيرها مع طواقمها البشرية المدربة أعلى من نظيراتها في أمريكا، وفي الغالب، لا تكون البنية التحتية، من معامل وخطوط أنابيب ومرافق مساندة جاهزة والماء متوفر في مواقع الحفر بالكميات المطلوبة، وفي بعض الأماكن سوف يعانون من القوانين البيئية المكلفة.

ومازلنا نتذكر وصول سعر برميل البترول قبل منتصف العقد الحالي إلى أكثر من 115 دولارا للبرميل، ولم تفكر حينئذٍ أي من الدول التي لديها بترول صخري خارج أمريكا في إنتاجه، لعلمهم باستحالة ذلك اقتصاديًّا. ما عدا الأرجنتين التي لها محاولات متواضعة وتنتج حاليًّا أقل من 50 ألف برميل من الصخري، ولا نعلم أي شيء عن مستوى التكلفة، والأرجح أنه إنتاج غير مربح، وحتى إذا أصبح لاحقًا باستطاعة أية جهة إنتاج البترول الصخري خارج أمريكا، فمن شبه المؤكد أنه سوف يكون بكميات قليلة، مقارنة مع الإنتاج الأمريكي الحالي الذي بلغ أكثر من 8 ملايين برميل يوميًّا.

فما حدث في أمريكا من المؤكد أنه لن يتكرر في أي مكان في العالم، فروسياً على سبيل المثال، لديها أكبر احتياطي صخري في العالم، وقد تنبأت دراسة قامت بها شركة البترول البريطانية BP قبل سنوات، بأن إنتاج روسيا من الصخري قد يصل عام 2035 إلى 800 ألف برميل فقط، وهي التي لديها مخزون كبير، يزيد على 70 بليون برميل. وفي 2035 تكون روسيا قد فقدت نسبة كبيرة من إنتاجها التقليدي وتكون بحاجة مُلحة لمزيد من الإنتاج، وهذا أيضا مبني ضمنيًّا على حتمية ارتفاع سعر برميل البترول إلى مستويات قياسية، وهو أمر وارد. المهم أن إنتاج الصخري في المستقبل لن يستطيع تعويض إلا جزء يسير من الانخفاض المتوقع في إنتاج البترول التقليدي، وبتكلفة عالية.

وهناك من يعتقدون أن تقدم التكنولوجيا سوف يخفض تكلفة إنتاج الصخري إلى مستوى التقليدي، وهذا أمر غير وارد على الإطلاق، إلا في حالة تحول التقليدي نفسه إلى غير تقليدي عندما يقترب من نهاية عمره، ويحتاج إنتاجه حينها إلى عمليات إضافية غير تقليدية عالية التكلفة. لأن العلة في الصخري هي طبيعته الجيولوجية، والتكنولوجيا لا تغير الجيولوجيا.

أوهام إعلامية

ومع ذلك فبعض وسائل الإعلام تروج أحيانًا لأرقام تكلفة ثابتة ومتدنية، أقل من 40 دولارا للبرميل بالنسبة للصخري الأمريكي، ويدَّعون أنها تمثل آخر ما وصل إليه الانخفاض. وهم بهذه الطريقة يعاملون برميل البترول الصخري وكأنه سلعة مصنَّعة ذات قيمة ثابتة، وهذا بعيد عن الواقع، فتكلفة الصخري تختلف حتى من بئر إلى أخرى، أضف احتمال عودته إلى الارتفاع مع استمرار النضوب. صحيح قد يجدون آبارًا محدودة من مناطق الـ sweet spots، أو ذات الإنتاج الأغزر، لها هذه الخاصية، وهذه ليست دليلا على أن تكلفة كل إنتاج الصخري قد وصل إلى هذا المستوى.

فعملية التكسير الهيدروليكي، والتي هدفها الرئيسي، فتح ممرات ميكروسكوبية بين مسام الصخور الصماء، تكون مساحة تأثيرها محدودة حول محيط البئر، كما ذكرنا، بحيث لا يتعدى قطرها عشرات الأمتار. وهي المنطقة التي سوف تمد البئر بالإنتاج، فكل بئر في الصخري، وما يحيط بها من مساحة وحجم صغير، يُعتبر بذاته حقلا مستقلا، وفي حالة الحقول التقليدية، أي بئر في الحقل يتسرب إليها الإنتاج من كافة جوانب وأبعاد الحقل دون أي عائق، أما بئر الصخري فإنتاجها يكون حصريًّا من محيطها المحدود بعملية التكسير.

وعند بداية حفر آبار الصخري، تحرص شركات الإنتاج على تصيِّد المناطق ذات الإنتاج الأغزر، وتكون الآبار متقاربة حتى تغطي آبار الإنتاج كافة أو معظم مساحة الحقل. ومن ثم تبدأ مرحلة عمليات حفر آبار الجيل الثاني، التي تكون بين آبار الجيل الأول، ويسمونها في أمريكا، child wells، وغالبًا وكما هو متوقع، يكون إنتاج آبار الجيل الثاني أقل من الجيل الأول، وهو أمر طبيعي، ولو اضطروا إلى حفر جيل ثالث من الآبار في المساحات الصغيرة المتبقية بين الآبار القديمة فسيكون إنتاجها أيضا أقل من آبار الجيل الثاني، والذي سيحدد حينها الجدوى الاقتصادية لحفر المزيد من الآبار هو سعر البرميل.

وتقدر إدارة معلومات الطاقة في أمريكا، احتياطي البترول الصخري حول العالم بما يقارب من 400 بليون برميل. وهو تقدير عشوائي، قد يزيد أو ينقص بنسبة كبيرة، ولدى روسيا أكبر احتياطي صخري، يقدَّر بـ 70 بليون برميل. وإنتاج الصخري وُجد ليبقى، وسوف يقرر كمية إنتاجه الطلب العالمي وسعر البرميل. والبترول الصخري، بالنسبة للسوق، بصرف النظر عن بلد المصدر، وعن كميته وتكلفة إنتاجه، لا يختلف عن بترول روسيا والسعودية والعراق وبقية الدول المنتجة.

وللعلم فقد اكتشف حديثًا في السعودية كميات كبيرة من الغاز الصخري في منطقة الجافورة، شرق الأحساء وتمتد إلى الخليج شرقًا، ورغم ارتفاع تكلفة إنتاجه، مقارنة مع إنتاج الغاز التقليدي، إلا أن أرامكو اليوم في طور إنشاء مرافق لإنتاج بليوني قدم مكعب من الغاز الصخري، وفي الوقت نفسه فإن الدراسات حاليًّا جارية في المنطقة المحيطة بالغاز الصخري للبحث عن بترول صخري، مع احتمال كبير لوجوده هناك. وحتى لو تم اكتشاف حقول بترول صخري، فمن غير المحتمل أن تتعجل أرامكو في إنتاجه بسبب ارتفاع التكلفة، ووجود ما يكفي من البترول التقليدي الرخيص في الوقت الحاضر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.